لو افترضنا (جدلا) وصول رجل إلى أي مطار في العالم، وبرفقته «فتاة» بلا أوراق هوية سوى صك شرائها من سوق نخاسة سري في منطقة نائية عن العالم الحديث، واحتج الرجل على أمن المطار بأنه لا يقبل أن يأخذوا منه الفتاة، ويطالبهم بتعويض مادي عن كل المبالغ التي دفعها في «شرائها» بصفتها جارية، رافعا صك ملكيتها في وجوههم، فإن الحل مع هذا الرجل «اللاتاريخي» بأن يقاد إلى الحبس، لارتكابه جريمة «الاتجار في البشر»، وأما «الجارية/‏الفتاة» فستساق إلى علاج نفسي، يعيد تأهيلها لهذا الزمن.

هذا المثال لإظهار المفارقة التاريخية بين «الحرة» و«الجارية» في هذا العصر، لعلنا نستعيد ما كانت عليه طبيعة العلاقات الاجتماعية في بعض المناطق التي تتميز باعتراف صريح بإمكانات المرأة وأهليتها، فما يحرج المتزمتين ما نجده من سماحة الدين في إجازة توكيل الرجل المرأة من غير محارمه لتكون «وكيله/‏محامية»، للترافع عنه في كثير من الأمور، مع مقاربة «المرأة البرزة» في الفقه الإسلامي بالمرأة العاملة، فأين هذا من «النظام الاجتماعي الصحوي الذي ألغى وجود المرأة بحجج دينية متوهمة، تحذر المرأة وتشككها في نفسها ومن حولها حتى تصل إلى الوسوسة في نوعية لبسها أمام أبنائها وإخوانها».

كل هذه المقدمة الطويلة للوصول إلى إشكالات لا يمكن أن تحل إلا باستعادة الهوية الاجتماعية لما قبل الصحوة، فالوجود الطبيعي المشترك للرجل والمرأة في «الفضاء العام» يقلب الطاولة على المستنفعين من الوجود المشترك (غير الطبيعي) للرجل والمرأة «تحت الطاولة» في «الفضاء الافتراضي»، ليستعيد المصابون بلوثة الصحوة التناقض الصحوي نفسه في تحريم الاختلاط مع وجود السائق الأجنبي والخادمة الأجنبية في منازلهم، حيث إن الهيكل الاجتماعي الصحوي يراوغ بتعديل موقع الجدران دون المساس بالأعمدة الصحوية في الهيكل الاجتماعي. وأعمدة الصحوة في الهيكل الاجتماعي تختبئ وراء ثلاثة كيانات «المرأة والمعلم وإمام المسجد»، فالمرأة الصحوية تفتعل الأزمات داخل مجتمعها المسلم عند ذكر الاختلاط، وترقص طربا عند قبولها أو قبول ابنتها كمبتعثة تختلط مع «الكفار» في جامعاتهم، أما المعلم وإمام المسجد فالحديث يطول.

وها هي أنظمة الحماية الأسرية توفر ما تستطيع توفيره من حماية وأمن للمرأة، مما قد يقع عليها من أقرب أقربائها، وعلى الرغم من ذلك، فإن بقايا النظام الصحوي المهيمن على الهيكل الاجتماعي ما زال يسيطر على جيوب وزوايا عمياء، لا يمكن للنظام معالجتها ما لم يتقدم المجتمع بنفسه، لتوفير الحماية الكاملة لبناته وأخواته من المرضى النفسيين، فمثلا «قد» توجد امرأة متزوجة من مريض بالسادية (الذي يتلذذ بإيذاء الآخرين) فيضربها كل شهر من ثلاث إلى أربع مرات، وعندما يتم إفهامها من قبل زميلات العمل بأن أنظمة الدولة ستوفر لها الحماية من هذا المريض، وتقتنع بهذا الكلام، نجدها تفاجئهم في اليوم التالي «وهي مضروبة»، علي الرغم من أنها قد حذرت زوجها من أي محاولة اعتداء عليها، وأنها ستتصل بالشرطة، فيجاوبها بكل خسة ودناءة: لا بأس ستأخذين وجبتك المعتادة من الضرب وعندما تتصلين بالشرطة ويحضرون سأخبرهم بأني وجدت معك رجلا لم أستطع الإمساك به، وهنا يتجلى واجب «الطليعة الاجتماعية» في تفكيك بقايا النظام الصحوي المهيمن على الهيكل الاجتماعي، الذي كان ينصح الزوجة في كل فتاواه بالصبر والاحتساب على كل ما تواجهه من زوجها، عنف وخيانة وقسوة وأذى معنوي ومادي، يصل إلى حد سلبها مالها، أو توريطها في قروض بنكية لمصلحته الخاصة، والمؤلم في كل هذا أن كثيرا من «الطليعة الاجتماعية» يقفون بالكلام فقط، حيث إنهم عاجزون بالفعل أمام الهيكل الاجتماعي المشوه الذي أسسته الصحوة في الوجدان والعقل الجمعي، على الرغم مما يلاحظونه من تمرد الجيل الجديد من بناتهم على هذه المنظومة الصحوية الفاسدة. ولهذا فمن الرشد والعقلانية ألا يكون وعي بناتنا بحرياتهن وحقوقهن سابق لوعي الوالدين، فإن حصل هذا فستكون حريتهن بلا برواز جميل يؤطرها، وسيفرضنها بفجاجة كأمر واقع يتعايش معه الوالدان إما بالمقاومة الحمقاء أو التجاهل الغبي، بينما الحريات والحقوق الممنوحة مبكرا ستكون طبيعية جميلة الإطار، أما الحريات والحقوق المنتزعة فبلا إطار، كأنها تمرد وثورة ينقصها النضج.

المرأة بعيون الصحويين ليست سوى ناقصة عقل أبد الدهر، وفي أقصى حالاتها فعالية وتطرفا ليست سوى عضو في شبكة «جهاد النكاح»، ويسألك أحدهم وقد تجاوز الخمسين: هل تقارن بيني وبين أختي؟! فعلى الرغم من أنها أكبر مني سنا، فإنني أكثر نضجا وحكمة وتقديرا للمواقف منها، فتضطر أن تعيد تعريف المعنى الإنساني لديه بقولك: الفرق بينكما ليس سببه فرق في النوع بل فرق في التجربة، فلو أن أختك الكبرى أكملت تعليمها وواصلت دراستها في أمريكا مثلك، ثم تنقلت في عملها بين المناطق مثلك، وبقيت أنت مثلها حبيس المنزل لم تكمل الابتدائية، فسيكون الفارق بينكما كما هو الآن بينك وبينها، فالفرق يا «ذكوري» هو فرق في التجربة فقط، ولهذا عاشت «مارجريت آن» متنكرة كرجل طيلة «65 عاما» تحت اسم «جيمس بيري»، لتعمل جراحا عسكريا، وتتفوق على رجال كثيرين عجزوا عن ممارسة مهمتها.

الصحوة سببت إعاقة حقيقية للمرأة، إعاقة عن أدنى مهارات الحياة على الرغم من مؤهلاتها وشهاداتها العليا، وعليكم تخيل الواقع «الصحوي» المرير الذي انحدرت إليه المرأة «العاملة» في إمكاناتها العقلية والحسية لو قالت لزميلاتها: أبشركم.. والدي اشترط على زوجي في عقد النكاح أن لي الحق في استخدام أقدامي للمشي، فيحسدونها على هذا الأب العظيم والزوج الكريم!؟!!، ومثلها تماما أن تفتخر فتاة بوالدها، لأنه اشترط على زوجها أن يكون «راتبها» لها ومن حقها!!؟!، والأنكى أن يتصور البعض أن المجتمع العربي في أصل تكوينه مجتمع غرائزي، وهذا أيضا من لوثة الصحوة، فالمجتمع العربي منذ أيام عنترة العبسي قبل الإسلام يؤمن بقيم المروءة والشهامة في تعامله مع المرأة، ولا يعتبر هذه القيم «مغامرة غير محسوبة»، ولهذا تجد كثيرا من عرب البادية الأقحاح في زمننا هذا ما زالوا يترنمون ببيت الشعر المشهور «ما يستشك يا حسين كود الرديين وإلا الطيب وسيع بطانه». فيا لمفارقة التاريخ إذ نتخلص من عادات السلاجقة الأتراك في نظام «الحريم»، الذي فرضوه عبر كل انتهاك بربري لأراضينا العربية طيلة قرون خلت، لتأتي الصحوة وتعيد لنا إرثهم المريض في التعامل مع نسائنا العفيفات الحرائر، ولهذا فالجزيرة العربية اعترفت في تاريخها الإسلامي بـ«أروى الصليحية» التي تولت حكم اليمن، والأمثلة كثيرة، لكن لم ولن يراها من غفل عن سطوة الأتراك، وأثرهم في ثقافتنا العربية بعد سفكهم دماء أجدادنا وسحقهم القديم بلداتنا وحصوننا طيلة بضعة قرون سالفة، فاستسلم بعض العرب لفقه الحريم العثماني، وظنوا أن الخنساء - رضي الله عنها - عاشت حياة «الحريم»، وتخيلوا أن العربي كان يحرس زوجته العفيفة الحرة كما يحرس السيد جاريته، خوفا من الهرب أو الخنى.