تتعجل إيران رفع العقوبات الأمريكية، لكن مرشدها يقول إنها غير متعجلة للتفاوض مع واشنطن، فكيف ستتوصل إذا إلى هدفها؟ برفع العقوبات «من دون شروط»، يجيب وزير خارجيتها، الذي فقد كل حصافة ودبلوماسية ولم يعد يكتب أي تغريدة إلا ليفرغ شحنة من الحقد على السعودية ودول الخليج والعرب عموما. في المقابل، لا تبدو الإدارة الجديدة في واشنطن متعجلة أيضا لمقاربة الملف الإيراني، وإن باتت توجهاتها الأساسية معروفة: عودة أمريكا إلى الاتفاق، عودة إيران إلى التزاماتها، التحضير للتفاوض بهدف تعديل الاتفاق... وتتركز التساؤلات حاليا على: متى يبدأ هذا التفاوض، وفقا لأي أجندة، أيكون أمريكيا- إيرانيا يبدأ سريا ثم يتوسع، بأي طريقة ووتيرة ستتصرف واشنطن بالعقوبات، إلى أي مدى ستنسق مع إسرائيل، وكيف ستراعي المصالح الأمنية للدول الخليجية والعربية؟

هناك مساحات من الغموض في هذه المرحلة، لكن المتوافق عليه أن أمريكا بايدن ستخفض تلقائيا التصعيد الذي ساد العام الماضي حتى الأيام الأخيرة من ولاية دونالد ترمب، واستغلته إيران، غير المتعجلة، لتستعد للتفاوض على طريقتها. اتخذت من جدل احتمال توجيه ضربة لها (برغبة ترمبية- إسرائيلية) ذريعة لإعلان التأهب، وأرفقته بمناورات بحرية وجوية حولتها إلى استعراض للقوة، سواء باختبار صواريخها الباليستية (يفترض أن تكون موضع تفاوض) أو بالتدريبات الهجومية. وبهذه المناورات أرادت طهران أيضا أن تستهل تكتيكاتها التفاوضية المقبلة، إذ كانت باشرت تخصيب اليورانيوم وصولا إلى درجة 20 في المئة بموجب قانون خاص سنه برلمانها (كأحد الردود على اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده)، ثم أبلغت عن اقترابها من إنتاج معدن اليورانيوم، أي أنها ماضية نحو امتلاك سلاح نووي، بحسب تحذير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.

قبل ذلك، عمدت إيران مباشرة أو عبر ميليشياتها إلى تسليط الضوء على خريطة سياساتها الإقليمية (يفترض أيضا أن تكون موضع تفاوض)، خصوصا بتأجيج الصراع مع الحكومة العراقية وتهديد رئيسها، وبتصعيد أتباعها الحوثيين هجماتهم على أهداف في السعودية، فيما تعمد قائد القوات الجوية في الحرس الثوري أمير علي حاجي زاده إعلان أن إيران مكنت فصائل غزة و«حزب الله» في لبنان من امتلاك قدرات صاروخية باعتبارها «الخط الأمامي للمواجهة». وللتوضيح بادر الأمين العام لـ«الحزب» حسن نصرالله إلى القول إن «المقاومة هي التي تحمي لبنان وتحافظ على سيادته»، متجاهلا بل متحديا لبنان الدولة والجيش والمجتمع. أما في سورية فتتحكم إيران بجزء مهم من جيش النظام وأجهزته وتقيم في الجنوب قواعد متواصلة مع الجنوب اللبناني تحسبا للحرب ضد إسرائيل.

في السياق نفسه أيضا طرح التفجيران الانتحاريان في قلب بغداد تساؤلات متناقضة. فالتوقيت غداة تنصيب الرئيس بايدن كان لافتا، وشبه الإجماع على أنهما «رسالة سياسية» ذهب أبعد من كون التفجيرين صنيعة تنظيم «داعش» ليحاول التعرف إلى الجهة التي تدير التنظيم أو جزءا من فلوله حاليا. ما استدعى الشكوك افتضاح الاختراقات الأمنية والاستخبارية التي تفوق إمكانات «داعش»، وما عززها أن قريبين من نظام طهران اعتبروا التفجيرين «نتيجة للحقد الوهابي التكفيري» فيما وجهت أطراف عراقية موالية لإيران الاتهام إلى «أجندات معادية للعراق»، لكن هؤلاء تشاركوا جميعا في إعادة تعويم «الحشد الشعبي» وتنظيف سمعته الداخلية، مذكرين بدوره في محاربة إرهاب «داعش». أما «الرسالة السياسية» الموجهة إلى واشنطن، كما لخصها مصدر عراقي، فمفادها أن «الإرهاب السني» هو الذي يهدد العراق، وما على الإدارة الجديدة سوى أن تتذكر ذلك إذا كانت ترغب فعلا في التفاوض مع إيران على سياساتها الإقليمية.

واستكمالا لهذا المسار تسعى طهران إلى تأطير «محور الممانعة/‏ المقاومة» في «معاهدة دفاعية» أعلن أن مجلس الشورى يعدها بهدف صد أي هجوم إسرائيلي محتمل على إحدى «دول جبهة المقاومة» برد جماعي «تبذل فيه الدول الأعضاء (في المعاهدة) كل مساعيها العسكرية والاقتصادية والسياسية لدرء الخطر بصورة كاملة». بديهي أن الدول المرشحة للانضمام إلى «المعاهدة» هي تلك الأربع التي تعتبر إيران أنها «تسيطر» على عواصمها. لكن الواقع يشي بأن محاولة طهران «شرعنة إمبراطوريتها» تأتي متأخرة بعد ما بذلت كل إمكاناتها لإضعاف أو إلغاء «الدول» التي تريد الآن استغلال قدراتها. وبالتالي فإنها تأخرت في طرح «معاهدة» لم يعد ممكنا أن تحصل عليها مع سوريا التي تدفعها روسيا إلى التطبيع مع إسرائيل، ولا مع العراق الذي يرتبط باتفاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، ولا مع لبنان الذي يعاني تحديدا من سلاح «حزب الله» كعقبة تمنع خروجه من أزمته الاقتصادية... إذا فإن «المعاهدة» ستكون مع «اللادول» والميليشيات التي لا يعترف أحد بدويلاتها كما في صنعاء وغزة.

لم يكشف أنطوني بلينكن، أمام اللجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، شيئا عن أوراق التفاوض المزمع مع إيران، واكتفى بالحديث عن مبدأ «الالتزام مقابل الالتزام». لكن وزير الخارجية الأمريكي الجديد، الذي كان في كواليس مفاوضات الاتفاق النووي، مقتنعا بأن النص الذي أمكن التوصل إليه عام 2015 لم يعد صالحا في أكثر من جانب، خصوصا بالنسبة إلى المهل الزمنية لتجميد البرنامج النووي والتشديد على التفتيش المفاجئ وغير المبرمج للمنشآت المشتبه بها. وعلى رغم إلحاح الشركاء الأوروبيين على مراجعة الاتفاق، لم يبد بلينكن الدرجة نفسها من قلق نظيره الفرنسي، فأولويته الآن لترتيب العودة إلى الاتفاق النووي وما تستلزمه من رفع نسبي للعقوبات مع إبقاء طهران تحت الضغط. لم يتطرق بلينكن إلى «أمن إسرائيل» في محددات التفاوض مع إيران، لكنه أبدى إيجابية حيال إشراك دول الخليج في المفاوضات، لكن هذا الاحتمال يطرح أيضا إمكان إشراك إسرائيل، ما يعني أن التعقيدات، الكثيرة أساسا، ستتضاعف. إذ ترفض إيران ضم أطراف أخرى إلى التفاوض، ولا تقبل تغيير صيغة الـ5+1 رغم استيائها من الأوروبيين بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»