يدرك فقهاء المسلمين في عصرنا الحاضر، عدم ملاءمة الفقه السائد مع احتياجات المجتمع المعاصر، وضعف أدواته في استيعاب المستجدات والمتغيرات الحديثة، ومن الانتقادات التي وجهت إلى الفقهاء اليوم، أنهم ما زالوا يمارسون عملية الاجتهادات الفقهية في إطار احتياجات الفرد المسلم في ظل إهمال دراسة الأحكام الشرعية التي تخص المجتمع الإسلامي ككل.

وفي هذا الصدد يقول أحد الفقهاء المعاصرين ما نصه: "إن أخذ المجال الفردي للتطبيق بعين الاعتبار فقط، نجم عن انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، فقد أخذ الاجتهاد يركز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي".

ومن القضايا التي يمكن طرحها في هذا المجال كمثال على ما سبق، هو عدم استيعاب الفقه المعاصر لقضية "حقوق المرأة"، فلا أحد ينكر أن هناك اختلافا واضحا بين فقهاء اليوم حول هذه القضية بالتحديد، وللأسف الشديد أن هذا الخلاف لا يظهر للناس، تماماً مثل اختلاف فقهاء المسلمين قديماً.

وليس هذا فحسب، بل إن الأمر امتد إلى اتهام المطالبين بحقوق المرأة وحل مشاكلها الاجتماعية، بالزندقة وهدم الشريعة والدين، وقالوا إن هؤلاء يستغلون الشبهات واختلاف العلماء ليحققوا أهدافهم الشيطانية والتغريبية!.

جميع العوامل السابقة أدت مجتمعة إلى تعطيل أو تأخر كثير من القضايا التي تخص المرأة، وأدخلت الناس في هرج ومرج وجدال لا طائل منه، ومن ذلك على سبيل المثال قضية "تأنيث المحلات النسائية"، وقضية "مشاركة المرأة في مجلس الشورى" وقضية "مشاركة المرأة في الأولمبياد الرياضية" و"قيادة المرأة للسيارة" وغيرها من القضايا الأخرى، ونظراً لأن البعض يدرك جيداً أن الإسلام لا يحرّم عمل المرأة ولا يحرّم مشاركتها السياسية، ولا يحرّم أيضاً الرياضة النسائية، بدؤوا ببث المظاهر السلبية لمثل هذه المشاركات ويستغلون بعض الأخطاء الفردية ليثبتوا بها صحة نظرتهم، ومن ذلك مثلاً أخبار وقصص القبض من قبل الهيئة على شاب وفتاة في أوضاع مخلة يعملون سوياً في محل نسائي، وفي نفس الوقت يغضّون الطرف عن قصص التحرش بالنساء في هذه المحلات.

وعلى أي حال، فإن المشكلة هنا كما ذكرت آنفاً، تتمثل في هيمنة الفقه التقليدي على الوعي المجتمعي، وبالتالي عدم استيعاب الفقه لمستجدات الحاضر، هذه من ناحية.

ومن ناحية أخرى فإن بعض فقهاء اليوم والذين يحاولون حل مشكلات المرأة المعاصرة يلاقون المقاومة تصل في معظم الأحيان إلى حد السب والشتم في شخوصهم، والبعض الآخر أصبح يخشى هذه المقاومة فلازموا الصمت والابتعاد، وربما يكون هذا هو السبب في التركيز على الاحتياجات الفردية في مواضيع الاجتهادات الفقهية.

فيما يلي أطرح مثالاً لمسألة فقهية تتعلق بحقوق المرأة، اختلف فيها الفقهاء قديماً وحديثاً، وهذه المسألة تم طرحها مؤخراً من قبل بعض المثقفين والفقهاء، ولكن كان الرد عليهم بأن هؤلاء ما هم إلا "زنادقة" يريدون أن يغيروا في ثوابت الدين والشريعة!.

والقضية هي "ميراث المرأة "، فقد طرح البعض موضوع "مساواة المرأة بالرجل في الميراث"، فكان الرد من قبل البعض: "هذه شبهات وأباطيل يرددها أدعياء تحرير المرأة، لنقض قواعد الميراث الإسلامي"، والقاعدة التي يرتكز عليها هؤلاء هي فهمهم لقوله تعالى : "للذكر مثل حظ الأنثيين"، وأخذ بعض الفقهاء هذه القاعدة وعمموها على بعض حالات الميراث، لذلك أصبحت هذه القاعدة من ثوابت الدين في رأيهم.

ولكن ماذا يقول فقهاء المسلمين الآخرين؟، ففي رأيهم: "أن للذكر مثل حظ الأنثيين تكون في حالة واحدة فقط هي عندما يكون في الورثة إخوة مختلطون ذكوراً وإناثاً، ولم يرد في هذا الحكم في جميع حالات الميراث، بل حتى في حالة الإخوة إذا كانوا إخوة لأم يأخذون نصيبهم بالتساوي لا فرق بين ذكرهم وإناثهم".

وفي رواية أن أحمد بن حنبل رحمه الله أوصى لحفيداته في وصيته بمبالغ من المال مساوية لما خصّ به أحفاده الذكور، وكان الرد على هذه الرواية من قبل البعض أن: " هذه وصية وليست ميراثاً، فليس على ابن حنبل أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثى" والبعض الآخر شكك في هذه الرواية وقال: "لا وصية لوارث"، فرد آخرون على هذا القول بأن هناك آية قرآنية تقر الوصية، وأن الأصل في وجود المواريث عندما لا تكون هناك وصية، والمعارضون لهذا الرأي يقولون إن :"آية الوصية منسوخة بالأحاديث الواردة في السنة، ومنها حديث (لا وصية لوارث)" فكان رد المعارضين للرأي السابق كالتالي:

"حديث (لا وصية لوارث) لا يصلح أن يكون ناسخاً لآية الوصية، وذلك لأن نسخ القرآن بالسنة مختلف فيه بين الفقهاء، فذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وإن كانت متواترة، وذهب بعض الفقهاء إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة..(والحديث السابق) حديث آحاد وليس متواترا".

ويستمر النقاش الفكري بين الفقهاء على المنوال السابق بين مؤيد ومعارض ومع ذلك لم يخرجوا عن إطار الدين والشريعة، فكيف ساغ للبعض اتهام من يطالب بمساواة المرأة بالرجل في الميراث وفقاً للمتغيرات الاجتماعية، بالزندقة وهدم ثوابت الدين؟.

الذي لا يعرفه البعض أن آراء فقهاء المسلمين في الماضي والتاريخ كانت تتأثر بالواقع وبالبيئة والمحيط الاجتماعي، ودون الخروج عن دائرة الدين ولكن من خلال فهم النصوص الدينية وفق مستجدات الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشونه، ويفترض بالفقهاء المعاصرين أن يكونوا كذلك، وخاصةً في ظل المتغيرات ومئات القضايا الأخرى التي تتعلق بحقوق المرأة، وخاصةً أن الواقع الاجتماعي للمرأة اليوم يختلف جذرياً عن واقعها بالأمس، وحل مشاكلها لا يكون إلا من خلال فهم احتياجاتها وفهم واقعها الاجتماعي.