تختلف مشروعية الأنظمة من نظام لآخر، فمنها ما يأتي عن طريق صناديق الاقتراع (الانتخابات)، ومنها ما يأتي عن طريق التوافق الاجتماعي (القبول والتفاعل الإيجابي بين النظام والمجتمع). وعندما نتحدث عن الأنظمة والدساتير التي تطبق على المجتمعات،ٍ فهي كذلك تأتي عن طريق استفتاء شعبي، ويعدل ويطور بعد ذلك عبر مؤسسات الدولة التشريعية الدستورية، إما من خلال (البرلمانات المنتخبة)، التي تمثل المجتمع، وإما عن طريق مؤسسات الدولة الدستورية التشريعية، التي تم قبولها والتفاعل الإيجابي معها من قبل المجتمع، مثل مجالس الوزراء أو مجالس الشورى، أو ما يماثلها.

إذاً فليس بالضروري، أن تكون المجتمعات حاضرة في كل نظام أو قانون يسن أو يبدل أو يستجد، أو أخذ رأيها فيه. حيث إن المجتمعات -كما ذكرت- يؤخذ رأيها في حالات مصيرية كالاستفتاء على دستور أو انتخاب حكومة أو ممثلين عنها، وما عدا ذلك فمهمة التشريع والتعديل والتبديل فيه، يكون من مهمة الحكومة والمؤسسات الدستورية المخولة بذلك، حيث هي الممثل الشرعي لهم. ولا يعني هذا غياب المجتمعات عن حلبة النقاش والجدال حول سن أو تعديل قوانين وأنظمة في الدولة تمس المجتمع، حيث يكون تواجدها عبر مؤسسات المجتمع الأهلي والإعلام الحر، والتي قد تؤتي ثمارها في بعض الحالات وقد لا تؤتي ثمارها في حالات أخرى.

وطبعاً هنالك حدود لا يمكن بأن تسمح الحكومات ولا مؤسساتها التشريعية، بتدخل المجتمعات أو أي فئات منها فيها، وهي حقوق المواطنين، كأفراد وأقليات. فأنظمة الدول الحديثة، وبعد التجربة التاريخية الطويلة في إدارة المجتمعات سياسياً، وضعت نصب أعينها بأن تكون الحامي الأول والسد المنيع، لحماية حقوق مجتمعاتها أفرادا وأقليات، من تسلط الأغلبية أو الفئة الأكثر جرأةً وأرفع صوتاً فيها. وهذه في جميع الدساتير والأنظمة الحديثة تم الاتفاق عليها دولياً، بأنها خطوط حمراء يجب عدم الاقتراب منها أو المساس بها أو تجاوزها، مهما دعت الظروف والدواعي لها، سواء الحقيقية أو الوهمية. ولذلك تم إنشاء وتأسيس منظمات شرعية دولية تراقب وتقيم أداء الحكومات في مدى حمايتها لحقوق أفرادها والأقليات من مواطنيها.

إذاً فهنالك خطوط حمراء، تهتم الحكومات والمجالس التشريعية، بعدم تجاوزها أو المساس بها، والتي منها حقوق الأفراد والأقليات، مثل حق الفرد في التعليم وممارسة الأقليات الدينية طقوسها ومعتقداتها الدينية، برعاية وكفالة الدولة، وحمايتها من تسلط بعض أو حتى معظم الأغلبية التي قد لا يعجبها ذلك. فحق التعليم للأفرادٍ، مثلاً، يفرض من قبل الحكومات، ليس فقط على المجتمع؛ ولكن على أسرة الفرد، في عمره المبكر، كطفل وصبي. أي أن حق الطفل في التعليم، يتم الاهتمام به ورعايته من قبل الحكومات، حتى يتخرج من الثانوي؛ وبعدها فله وحده حرية إكمال أو عدم إكمال تعليمه الجامعي. ولا يتم الاعتراف بأي ظروف أو خصوصية لأي أسرة، إذا طالبت بعدم إرسال طفلها أو أطفالها للمدرسة. وهذا يعني أن هنالك حقوقا للفرد المواطن، دخلت دائرة المقدس، لا يتم التدخل أو الإخلال بها، حتى من قبل أقرب المقربين له، وهم والداه.

وبناء على ذلك، فإذا كانت حقوق المواطن الفرد محمية من أقرب الناس إليه، وهم والداه، فما بالنا في حمايته من بعض فئات المجتمع أو غالبية المجتمع، الذي قد لا يمت له صلة بهم، لا من بعيد أو من قريب. وهذا ليس فقط حماية للأفراد والأقليات من تسلط المجتمع؛ ولكن أيضاً حماية المجتمع كله، من ويلات الاحتراب والتخريب الداخلي والتدخلات الخارجية. فأعداء المجتمعات في الداخل والخارج دوماً وأبداً، تقتات على حرمان المجتمعات أو فئات منها من حقوقها الطبيعية، المسلم بها شرعياً ووطنياً ودولياً، لتنطلق تفتيتاً وتخريباً فيه، بقدر ما أوتيت من بأس وقوة. وهكذا فالسلم الداخلي لكل مجتمع يعتمد، بشكل رئيسي، على عناية حكومته ومؤسساته التشريعية والتنفيذية بحقوق أفراده وأقلياته وصيانتها والذود عنها.

كما أن لكل مواطن عاقل بالغ، الحق في التخلي عن حق من حقوقه، ويجب على الحكومة كذلك حماية حقه في التخلي عن حقه، لسبب أو آخر يراه مقنعا في تركه حقه هذا أو حقه ذاك. وبنفس الوقت، لا يمكن لأي حكومة أن تسمع رأيا أو ترضخ لطلب أي مواطن أو فئة من مواطنيها في منع آخرين من المواطنين أو فئات منهم في أخذ حقوقهم الشرعية والوطنية والمجمع عليها دولياً والتمتع بها. كما أنها ليست بحاجة لإقناع أحد بذلك، حيث إنها حق من حقوقهم، لا يسمح لكائن من كان الجدال أو النقاش حولها.

وعلى هذا الأساس فعلى كل مسؤول في أجهزة الحكومة ومؤسسات الدولة، التشريعية منها والتنفيذية، مراعاة فهم مصادر حقوق المواطنين وكيفية الحفاظ عليها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، مراعاة عدم التحجج في أخذ رأي المجتمع في مسألة منح أو عدم منح أفراده أو فئات منه حقوقهم؛ فالحقوق خطوط حمراء لا يجادل أو يناقش فيها أو حولها أحد. هذا في حال، إذا افترضنا أن هنالك وسيلة ناجعة وعملية لأخذ رأي المجتمع كله في مسألة حقوق أفراده أو حقوق فئات منه.

تناقلت صحافتنا المحلية خبر لقاء نائبة وزير التربية والتعليم أستاذتنا العزيزة نورة الفايز، بوفد هندي، وصرحت أمامه، بأن الرياضة النسائية خطوة في الحسبان، ولكنها تحتاج إلى تهيئة المجتمع لقبولها...! السؤال هنا، هو كيف ستقوم أستاذتنا نورة بتهيئة المجتمع لقبول الرياضة في مدارس البنات؟ والسؤال الذي يتبعه إذا كان لديها إجابة وافية وشافية عن السؤال الأول، هو كيف سيتم لها التعرف بأن المجتمع قد تهيأ أو لم يتهيأ بعد..؟! وآخر الأسئلة لها هو، ألم تفكري أستاذتي الفاضلة، بأن الوفد الهندي هنا، سوف يرمي مجتمعنا قاطبة بالجهل والتخلف؟ حيث لم يتهيأ بعد، وهو يطوي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لقبول ممارسة الرياضة لصغيراته وفلذات أكباده في مدارسهن الخاصة بهن، دون غيرهن من المخلوقات.

أي أن الوفد الهندي طبعاً، لن يرى بأن علة التخلف تكمن في بعض إدارات وزارتك، التي هي التي لم تتهيأ بعد لقبول الرياضة في مدارس البنات، وليس المجتمع، الذي اعتاد بعض المسؤولين رمي عجزهم وقصورهم عليه. وهم يدرون أو لا يدرون أنهم يهينون المجتمع بكل فئاته ويحطون من قدره، وذلك برميه بالتخلف والجهل وعدم الاستعداد، لمنح نسائه وبناته حقوقهن الطبيعية والشرعية والقانونية والدولية، كمواطنات كاملات الوطنية والأهلية، مثلهن مثل نصف مجتمعهن الآخر الرجال والأولاد.

من الآن فصاعداً يجب أن نطالب كمواطنين أحرار، أي مسؤول يرمينا كمجتمع بالتخلف وعدم استعدادنا للتعاطي مع معطيات العصر، بشكل حضاري ومسؤول، بالاعتذار لنا، وإذا كررها بالاستقالة، وقد أعذر من أنذر.