أثناء متابعتي للمباراة المجنونة في الدوري الإنجليزي –قبل أيام- بين ليفربول وتوتنهام، والتي انتهت بالتعادل الإيجابي 2/2، لفت انتباهي السجود المستمر على أرض الملعب من قبل اللاعب المصري المتألق «محمد صلاح» بعد تسجيله أي هدف، وهي فرحة ذات طابع إسلامي، أعلم جيدا أن كثيرا من نجوم كرة القدم في العالم لديهم طرقهم الخاصة للاحتفاء بعد تسجيل الأهداف، مثل طريقة النجم الأرجنتيني «ديبالا» الذي يضع يده على شكل قناع، وكذلك الطريقة المميزة لأفضل لاعب في العالم البرتغالي «كريستيانو رونالدو»، ولكن الكثير من اللاعبين الإنجليز وبسبب ثقافتهم المسيحية الكاثوليكية يقومون بلمس الأرض وتحريك اليد بشكل صليب على الرأس والصدر.

سؤالي: كيف تقبلت الجماهير الإنجليزية هذا النوع من السلوك رغم ما فيه من إيحاءات دينية؟ لماذا لم نجد اعتراضا من أي أحد هناك؟ كيف استطاعت هذه اللعبة في تلك الملاعب أن تذوّب كل الفوارق العنصرية، بحيث يكون الجميع سواسية أمام العدالة الكروية، بصرف النظر عن الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو اللغة، خاصة إذا عرفنا أن الملاعب الإنجليزية في السبعينيات الميلادية كانت تغمرها العنصرية والتمييز من أعلى رأسها وحتى أخمص قدميها! وكانت الهتافات العنصرية والشتائم العرقية سلوكا سائدا ومقبولا حينذاك، خاصة بالنسبة للسود والملونين، ولم يكن هناك أي رادع لها. إن السر الأساس يكمن اليوم في أن المستديرة الساحرة أصبحت ثقافة إنسانية بحد ذاتها، الإنسانية الممثلة فيما يقدمه اللاعب كإنسان وكموهبة، يقف اللاعب في الساحة الخضراء إنسانا حرا كاملا متساويا مع كل إنسان آخر، مع كل لاعب وكل متفرج في طقس كروي مثير.. نشاهد الفريق الإنجليزي يلعب بمهاجم مصري الجنسية «محمد صلاح» يتفوق على أفضل الهدافين في الدوري الإنجليزي «هاري كين»، فيهتف له الجمهور الإنجليزي الحاشد ملوحا بالأعلام صارخا: صلاح.. صلاح!. حقا إنها المستديرة الساحرة، التي حققت فلسفة العولمة في كامل أبعادها، ولم يعترض عليها أحد، ولم يخش أحد من فقدان الهوية، وأقبل الجميع على هذه العولمة الكروية دون توجس، استطاعت البشرية التي لم تجتمع على دين ولا مذهب ولا نظام اقتصادي أو سياسي ولا لغة ولا ثقافة موحدة، أن تجتمع على عشق هذه الأيقونة البلاستيكية الساحرة؟ اليوم يوجد في الدوري الانجليزي أكثر من 50 لاعباً أساسياً من المسلمين من 18 دولة، وأصبح وجود اللاعبين السود والآسيويين أمراً طبيعياً وعاديا، بل أصبحت الهتافات العنصرية والشتائم العرقية أمرا مجرما ومحرما في القانون، وصار اللاعب الذي يتلفظ على غيره بألفاظ فيها إيحاءات عنصرية معرضاً للعقاب.

ما آلت إليه الأمور اليوم لم يحدث من قبيل الصدفة، بل جاء في سياق تطور ملحوظ من كافة المؤسسات المجتمعية الرياضية والثقافية. ليست كرة القدم فقط بل الرياضة بشكل عام، حتى أصبحت تقدم مفهوما متحررا للمواطنة وحقوق الإنسان، وخير شاهد على ذلك المقولة الشهيرة لـ«نيلسون مانديلا»: (للرياضة قوة بإمكانها تغيير العالم، قوة الإلهام، قوة توحيد الناس بطريقة تتفوق على أي وسيلة أخرى)، أخيرا أقول: هل استطاعت الرياضة أن تقضي على العنصرية؟ بالطبع لا، ولكنها على الأقل ساهمت في التخفيف منها وصار على الناس اليوم أن يختاروا بين مجتمع مستقر يتعايش فيه الناس من كل لون ودين ولغة وعرق، أو أن يكرروا ما عاشوا عليه، من شعور وهمي بالتفوق على الآخر المختلف.