قلت مؤمنا: المدينة التي تصلح أن تكون أيّ مدينة أخرى، ليست مدينة، وإنما هي تجمّع سكاني ليست له ملامحه الخاصة، مما يجعله يشبه أي تجمع سكاني آخر في أي مكان من العالم.

وقلت متيقنا: المدينة التي يستطيع القادم إليها دخولها من باب غير باب تاريخها، ليست عريقة، وإنما هي مدينة طارئة تحتاج إلى مئات السنين حتى تصنع تاريخها، ثم ترسم -بعد ذلك- ملامحها الخاصة التي تعكس هويتها.

هذان العنصران: (الهوية، والتاريخ) سيطرا على ذهني في أثناء انعقاد الورش المتواصلة الخاصة بتطوير مدينة أبها، وهي الورش التي يباشرها أمير منطقة عسير تركي بن طلال بن عبدالعزيز بنفسه منذ عدة أشهر، ويشارك فيها بفاعلية ووعي وصبر وتقبل وسعة صدر، وحرص على الإفادة والاستزادة في آن واحد.

وقبل أن أذهب إلى هواجسي وأفكاري المتعلقة بالتاريخ والهوية، أشهد شهادة حق، إن شاء الله، أنني -من خلال مشاركتي في بعض هذه الورش- لمست من الأمير تركي، ومن المخططين لهذه المشروعات حرصا فائقا على مكونات هوية مدينة أبها، وعلى عناصرها التاريخية الباقية، وأنني شهدت فيهم وعيا عميقا مبنيا على المعرفة بتاريخ أبها، وعلى العلم بمحددات هويتها، مما يجعلني أجزم أن الهدف الرئيس من هذه الورش التي تشارك فيها فئات مجتمعية مختلفة لا علاقة لها بالهندسة، ولا بتخطيط المدن، هو الحرص على عدم المساس بالعناصر التي تعكس تاريخ المدينة، والاحتراز من طمس المعالم التي تشكل هويتها، فضلا عن إشعار أهل أبها بأنهم شركاء فاعلون في أعمال تطوير مدينتهم.

وبعد هذه الشهادة، أعود إلى العنصرين المسيطرين على تفكيري، وهما: تاريخ مدينتي، ووجهها المختلف عن وجوه غيرها من المدن، لأقرر أن سيطرة هذين العنصرين على ذهني ناجمة عن كونهما يرتبطان بـ«الهويّة»، أو أنهما أهم محدّداتها، فضلا عن أن بينهما ارتباط وجود حين يتعلقان بالمدن، لأن وجود أحدهما ضرورة لازمة لوجود الآخر، بمعنى أن العناصر التي تشكل هوية المدينة لا يمكن أن توجد إلا بوجود تاريخها الذي لا يصبح تاريخا إلا بعد عقود زمنية حية ونامية، أو بعد قرون طويلة، أي أنه لا هوية لأي مدينة بلا تاريخ يسبق تشكّلها ويتسبب في وجودها، وذلك لأنه يراكم -مع تتابع العقود الزمنية- ملامحها العمرانية والاجتماعية والجمالية والثقافية، حتى تصير مدينة ذا وجه معروف بعلاماته المميزة التي تجعله يمتاز عن وجوه نظائرها، وحتى يصير من الممكن لأهلها والقادمين إليها قراءة تاريخها على جدران مبانيها الرسمية، وعلى جدران مساكنها ومساجدها، وفي شوارعها، وأزقتها، وحاراتها، وحدائقها، ومزارعها، ومجسماتها، ودواراتها، وساحاتها، وأسواقها، وكل الفراغات العامة التي تحتويها.

أجزم أن أي تطوير يتعلّق بالمدن، ولا يهتم بهذين العنصرين اهتماما يليق بأهميتهما، أو لا يعيهما وعيا يدل على عقول فاعليه، إنما هو شكل من أشكال الهدم والطمس: هدم التاريخ، وطمس الهوية، و«بعض البناء يكون هدما»، كما قال محمد الماغوط على لسان دريد لحام في فيلم: «التقرير».

نعم، بعض البناء هدم، لأنه يحوّل أي مدينة عريقة ذات هوية واضحة مستمدة من تاريخها، إلى مدينة تشبه أي مدينة في العالم، وبذا لا يبقى لها من وطنها سوى وقوعها على أرض ذلك الوطن، فيما هي تصلح أن تقع في أي مكان من العالم دون تحديد، ولا يبقى لها من ثقافة أهلها ومشاعرهم سوى شعورهم تجاهها بالاغتراب النفسي، لأن وجودهم فيها يصير شبيها بوجود السكان الطارئين المغتربين الخالين من الذكريات، والفاقدين لمواطن التذكر، والفارغين من أسباب الانتماء، والبعيدين عن الشعور بالحميمية تجاه مدينتهم، وبذا لا يبقون «أهلا» للمدينة، وإنما يتحولون إلى سكان مجردين من الحنين والذكريات والهوية والتاريخ.

من المعلوم عند أهل اللغة، أن الفارق كبير في المدلولات والإيحاءات - بين تركيبي: «أهل المدينة»، و«سكان المدينة»، لأن لفظة: «أهل»، توحي بوجود وشائج قوية، وتشي بأن أهل المدينة جزء من مكوناتها، وهي جزء منهم لا ينفك عنهم، فيما لفظة: «سكان»، توحي بأنهم يسكنونها مضطرين دون أن يشعروا تجاهها بأي حميمية، وبالتالي فهم متجردون من الانتماء الحقيقي إلى مكانهم/ مدينتهم، ولهذا التجرد خطورته الثقافية على المديين الزمنيين: القريب، والبعيد، وله -لا سمح الله- خطورته الأمنية على المستوى الوطني عند النظر إلى التطوير الهادم الطامس بوصفه سببا من أسباب صناعة احتقان شعبي خفي تجاه الجهات الحكومية العاملة على التطوير، وتجاه المسؤولين التنفيذيين.

حين نقول إن التطوير الهادم الطامس سبب من أسباب صناعة الاحتقان الشعبي، فإن التاريخ والأحداث يؤكدان ذلك، فأهل المدن التي لها تواريخ عريقة، وهويات واضحة، يشعرون تجاهها بالغيرة، ولا يرضون بأي عمل يطمس هوياتها، أو يهدم تاريخها، مهما كان البديل الجديد براقا وصقيلا وعصريا، ولا أريد تأييد كلامي بالاستشهاد بأحداث تاريخية قديمة ومعاصرة، كان قادحها الرئيس وجود أعمال هدم عشوائية بحجج البناء والإحلال والتطوير، أو وجود حالات تعد على مكونات حضرية ملكيتها عامة في الأصل، كالساحات والحدائق والميادين، بحجج الاستثمار والاستفادة والتغيير.

بقيت فكرة احترازية مهمة لإبعاد القارئين عن الفهم الخاطئ، وهي: إن الانتماء إلى المكان وحبه فطرة إنسانية، كما أن التمسك بهويته دال على وعي وعلى صحة نفسية، وإن الحب الفطري للوطن يبدأ من حب المكان/ الإقليم الذي ينتمي إليه الإنسان بوصفه مكان ولادة ومدارج نشأة وموئل ذكريات، وأجزم أن حب الإقليم لا ينفصل عن حب الوطن ولا يتعارض معه أبدا، وأعني -هنا- الوطن بالمفهوم الحديث لمصطلح: «الوطن»، وهو: تلك الرقعة الواسعة ذات الحدود المعلومة المعترف بها دوليا، والتي تكتنفها وتدير شؤون مواطنيها مؤسسات حديثة ذات مرجعيات إدارية موحدة، ويتولى أمرها آمر مطلق واحد، ونتحرك في مناطقها كلها أحرارا آمنين مؤمنين بأننا الأهل في كل منطقة، وتهمنا أمورها كلها من الماء الغربي، إلى الماء الشرقي، ومن أقصى كثيب في الشمال إلى أقصى قمة في الجنوب.

وأزيد على ذلك: إن رفض الإنسان للعناصر الطارئة على بيئته وثقافته ومدينته، مع احترامها وعدم الانتقاص منها في أماكنها الأصلية، ليس من العنصرية في شيء، وإنما العنصرية تكون عند انتقاص الأماكن الأخرى، والتعالي عليها وعلى ثقافة أهلها.