لظرف ما تأخر هذا النثار أسبوعين كاملين رغم تكامل فكرته ورغبتي في نشره مع بداية العام الميلادي الجديد، وها أنا أعود إليه مقاربا أبرز الأحداث الثقافية المحلية في عامنا المنصرم، وقد دفعني لتأكيد كتابته، ما قرأته من محاولات (رصد) كثيرة لتك الأحداث، وأدهشني غياب أعمال وأحداث (أكثر أهمية وفاعلية) في تلك المحاولات (الصحافية) التوثيقية!

 

(حراك)

ثمة تغييرات ثقافية على مستوى التنظيم الإداري للمؤسسة الثقافية، كاستحداث وزارة مستقلة للثقافة، وإنشاء معهد للثقافة والفنون (تحت مظلة جمعية الثقافة والفنون).. كما تنوعت الفعاليات الفنية الغنائية والموسيقية بأصوات وأنغام الأبرز محليا وعربيا وعالميا، وأصبحت حقا أكثر الفعاليات صدى وتأثيرا، متوزعة على أنحاء شتى من بلادنا الحبيبة.

أيضا استمر المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية بتراكم عطاءاته ذات الصدى الشعبي ومصدر الاهتمام الجمعي لأطياف كثيرة من المجتمع، كما لا يمكن إغفال ما حدث في منطقة العلا التاريخية من فعاليات أخرى، تحت مسمى مهرجان (شتاء طنطورة) الجديد في مسماه ومكانه وأساليب عرض أحداثه..

كل ما سبق كان حراكا ثقافيا جميلا بلا شك، ولكن تكرار تعاطي أحداثه إعلاميا، جعل من الأمانة العلمية والثقافية إبراز بعض الأحداث (المغيبة) ذات الأهمية البالغة، من ذلك النوع الذي يسجل بصمات هائلة في المكون الثقافي الجمعي، ويجعل لتداعياتها حضورا راسخا في المشهد الثقافي العام.. عربيا وإقليميا على أقل تقدير:



* (احتفالية القراءة.. مركز الملك عبدالعزيز)

لم يكن ما يحدث في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي بالظهران للعام الخامس على التوالي أمرا عاديا ومألوفا (بكل المقاييس)، فمسابقة (اقرأ) التي احتضنها المركز، نهضت بها عقول نيرة وسواعد مباركة، لتكون المسابقة احتفالية أنيقة بالقراءة والكتاب والقارئ معا، تحول معها الكتاب إلى فعل مسرحي تتجاوب معه الأمداء والأصداء والألوان والأصوات، لتتسق مع درجة الإلهام الذي يشع من مصدر المعرفة الأثير!، مما كان له عظيم الأثر فعلا في تحقيق أهداف الملتقى من تحفيز للقراءة ولثقافة القراءة وتطوير الملكة النقدية ومهارات الخطابة لأكثر من خمسين ألف متسابق حتى العام المنصرم 2018! والمسابقة تستهدف طلاب المراحل التعليمية كلها من المواطنين والمقيمين، لتتم بعد مراحل شتى عملية فرزهم وتتويج أبرزهم، لإدراجهم في محاضرات ثقافية وورش عمل إبداعية، ودورات تجريبية للمشارك لكي يعرض فكرته (القرائية) بشكل إبداعي خلاق.

(ولكم أن تتخيلوا المستوى الثقافي والخطابي والإبداعي لعشرة متوجين في نهاية مراحل المسابقة من بين عشرين ألف متسابق في الدورة الأخيرة)!.

ولكم أن تتخيلوا -أيضا- مسرحا معدا بعناية جمالية فائقة وحضور كثيف تتقدمهم لجنة التحكيم وضيوف مهمين في عالم الكتاب وساحات الثقافة (عبدالسلام بن عبدالعالي.. امبرتو ايكو.. ستيفان زفايغ...) يصوبون أنظارهم الثمينة أمام شاب يعتلي المسرح أمامهم، يصف لهم حالة الإلهام الخاصة ذاتها التي عاشها وهو يقرأ اختياره من كتاب أو رواية، محاولا بكل طاقاته الإلقائية والمسرحية -مع تفاعل خلفيات موسيقية دالة ومتسقة مع المشهد- نقل تجربته القرائية بشكل يدل على شدة سبر أغوار النص المقروء وطاقة الإبداع الناشئة عنه في وعي المتسابق..

أجواء تمور بثقافة تنسكب آثارها على المشهد فتمنحه ألقا ودهشة وسحرا لا يتكرر!



رواية (مسرى الغرانيق) لأميمة الخميس

عندما سمعت عن فوز الكاتبة السعودية الجادة (جدا) أميمة الخميس بجائزة نجيب محفوظ فرحت ببهجة طاغية كعادتي عندما أجد في الحياة تكريما وشكرا لمن يستحق (في زمن صاخب بالمقلد والمبتذل)، وجائزة نجيب محفوظ العالمية ذات قيمة ومصداقية منذ أن بدأت فعالياتها عام 1996 من خلال دار النشر بالجامعة الأميركية بالقاهرة.

أزعم أن رواية أميمة أهم إصدارات الثقافة السعودية خلال العام المنصرم كله، بما توافر لها من قيم روائية فنية معقدة، ورؤى مكثفة تلقي بظلالها الوارفة على واقع، ليسمو عقلانية وعلما حقيقيا. لم يكن لأميمة الخميس أن تنجز هذا العمل لولا أنها لم تشتغل بجد مضنٍ على أرشيف هائل من المعلومات والصور والأحداث والشخصيات والأماكن لحقبة زمنية مزدهرة من تاريخنا الإسلامي، اختارتها الكاتبة بعناية فائقة، لما فيها من حراك ثقافي وصراع فكري، منتقلة ببطلها الأثير بين بغداد ودمشق والقدس وقاهرة المعز بحرفنة روائية خالصة، حتى ليخيل للقارئ أن أميمة كانت قد وضعت في لحظة ما كاميرا خفية في تلك الأرجاء قبل 12 قرنا، ثم عادت والتقطتها في زمننا الحالي، لترى من خلالها (جميع) التفاصيل الخاصة بعالمها الروائي، وربما أن هذه المادة الفنتازية تفسر لنا ما ورد في الرواية من أصداء وأمداء وروائح الأسواق والجوامع ودور الخلافة، واللباس الخاص بكل طائفة، والطقوس المميزة لكل الطوائف، وحتى طبيعة ورق الكتب وأصل صناعتها بدقة مذهلة.

هي رحلة بالغة الصعوبة، ولكن أميمة كانت جريئة في خوض غمارها وواثقة من إمكاناتها في تفعيل التقنيات الفنية للروايات (العظيمة)، ولعل أهمها وأشدها تأثيرا عنصر (الحوارية) الذي يمتد طويلا عميقا ليشمل صيغ السرد والأصوات والأماكن والأزمنة والتناصات مع نصوص وأقوال وآثار شتى..

كان القائمون على جائزة نجيب محفوظ أوفياء حقا مع (الرواية).. مع (الرائد نجيب محفوظ) وهم يمنحون رواية (مسرى الغرانيق) جائزتهم الثمينة.

في وقت تمنى فيه المهتمون بالرواية المحلية أن تكرم صاحبة الرواية في بلدها وبين أبناء جلدتها، ولو أن الذين كرموها لم يبتعدوا عن جلدتنا كثيرا.



مسلسل (عاصوف) ناصر القصبي

ثالث أهم الأحداث الثقافية في عامنا الفائت هو العمل الدرامي (العاصوف) الذي نهض ببطولته الفنان المحبوب ناصر القصبي، وأهمية هذا العمل تكمن في كونه أول عمل يصور بيئة محلية بدقة وصدق، كما كان الحال مع العاصمة الرياض خلال فترة انتقالية ثرية بالتحولات وهي فترة السبعينات الميلادية.

(ويبدو أن للحديث عن هذا العمل الثقافي الفني صلة، بعد أن طال النثار وتجاوز مساحة النشر).