تزاوج إيران بين توظيف الأدوات الناعمة والصلبة في إستراتيجيتها الطائفية والعدوانية والتوسعية ضد العرب والمسلمين بشكل خاص، ويشكل المناخ الدولي وقوة إيران ضابطا الإيقاع في تحديد الأولوية والمفاضلة بين الأدوات الناعمة والصلبة، فكلما كان المناخ الدولي هادئا اعتمدت الأدوات الصلبة والخشنة - من أبرزها الميليشيات الشيعية الطائفية - كما حصل بعد الاتفاق النووي زمن إدارة أوباما، وكلما كان المناخ الدولي معاندا لها أو كانت تمر بمرحلة حرجة فإنها تركز على الأدوات الناعمة، ولنا في مرحلة رئاسة خاتمي نموذج لذلك، إذ كانت إيران قد أنهكت بشدة بعد خسارة حربها مع العراق، ومن ثم خسرت كاريزمية الخميني وكان لا بد لها من مرحلة التقاط للأنفاس والتهدئة.

اليوم إيران تدخل مرحلة جديدة وهي على بعد أيام من اجتماع دولي كبير في بولندا لتشديد الحصار عليها، وسيكون خيارها غالباً التركيز على تفعيل أدواتها الناعمة، والتي تشمل: المجال الإعلامي، الحركات والشخصيات الإسلامية، قوى وشخصيات ناصرية ويسارية وفنية، اللوبي الإيراني في الغرب، وغيرها.

ويعد الإعلام من أهم الأدوات الناعمة التي يَعتمد عليها نظام الملالي، فمنذ تواجد الخميني في فرنسا اعتمد على (شريط الكاسيت) للتواصل مع جمهوره في إيران، حيث كانت المخابرات الفرنسية والأميركية هي التي تتكفل بتسجيل خطاباته في مدينة (نوفل لو شاتو) ومن ثم تنقل بالهاتف إلى طهران لتسجّل وتوزّع على الجماهير!

وبقيت على الدوام مركزية الإعلام حاضرة في أدوات ملالي طهران، ويكفي للتدليل على ذلك استحضار تصريح خامنئي مرشد الجمهورية عن أهمية الإعلام حين قال «وسائل الإعلام في هذا العصر لها قدرة تدميرية تعادل القنبلة الذرية»، وقد شرح هذا التصريح بعض أتباع المرشد بالقول «لا نكون في موقع المبالغة إذا حددنا أن كل فضائية معادية تعادل سرب طائرات أو حاملة طائرات في قوتها الناعمة في سياق معادلات هذه الحرب الجديدة، وكل موقع أو شبكة إنترنت تعادل مدفعا ثقيلا في قوتها الناعمة، وكل مقالة أو تصريح يعادل قذيفة صاروخية في قوته الناعمة، كما أن كل تصريح أو خطاب لقائد من قادة الفتنة يوازي كمينا بعبوة ناسفة متفجرة في قوته الناعمة. فهذه هي أسلحة الحرب الناعمة».

ونظرًا للدور الهام والمركزي للإعلام في تنفيذ إستراتيجية نظام طهران فقد نص الدستور على أن من وظائف ومهمات مرشد الثورة «تعيين رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران وإقالته».

من هنا حرصت إيران على إقامة عدد كبير من المجلات والإذاعات والمواقع والقنوات الفضائية في إيران ودول أخرى وبعدة لغات، ونوّعت الشرائح المستهدفة منها، فجعلت منها ما يخاطب المتدين كقناة المنار، ومنها ما يخاطب غير المتدين كقناة الميادين، وبعضها موجهة للأطفال وهكذا، حتى تصل دعايتها لأكبر قطاع من الناس.

وأيضا دعمت كثيرا من المنابر الإعلامية الحليفة لها كبعض القنوات السورية واللبنانية، وتدخلت في خطابها السياسي، ويتبدى هذا جليا بما يكشفه الإعلامي النبيه نديم قطيش في برنامجه DNA، حيث تتطابق التحليلات السياسية في هذه القنوات المختلفة والمختلف ضيوفها في عشرات المواقف، مما يؤكد وجود غرفة تحكم عليا تفرض رؤيتها وروايتها للأحداث على جميع هذه القنوات المتعددة في الظاهر!.

ولتنجح إيران في توظيف الأداة الإعلامية بفعالية فإنها تولي قضية صناعة الكوادر الإعلامية رعاية فائقة عبر تدريب هذه الكوادر وتوفير الإمكانيات والتمويل، لإقامة المنابر الإعلامية والتي تحتل موقع الصدارة والأولوية على أجندة أي كيان تابع لملالي طهران في الدول المختلفة.

 والبصمة الإيرانية تتبدى واضحة في الأداء الإعلامي لجيوب وأذرع إيران في الدول المختلفة، ولو أخذنا نموذج الإعلام الحوثي وكيف صُنع، وصُنعت ودُربت له الكوادر في معسكرات حزب الله اللبناني، حيث تكاد قناة المسيرة الحوثية أن تكون نسخة من قناة المنار، بل حتى خطابات عبدالملك الحوثي زعيم العصابة تُطابق خطابات حسن نصر الله زعيم الميليشيا اللبنانية في لون الخلفية وطريقة الأداء وحتى استخدام نفس (الميكرفون)!

ولم يكتفِ دهاقنة ملالي طهران بتأسيس منابرهم الإعلامية وتدريبها وتطويرها ورعايتها لتكون ذراعا ضاربة لها تسيطر على العقول والقلوب بأكاذيبها وبهرجاتها، بل سعوا بجد لاختراق الإعلام المعادي لهم والإعلام العالمي، فهذا غسان بن جدو يخرج من رحم قناة الجزيرة ليؤسس قناة الميادين، وهذه إذاعة البي بي سي العربية والفارسية تكاد تتماهى مع الدعايات الإيرانية، وعلى هذه الخلفية تم فصل عدد من المراسلين في قناة العربية قبل فترة تبين أنهم يخدمون سياسة إيران الإعلامية في الحقيقة، وكان لبعض الإعلاميين المرتبطين بإيران والذين تصدروا في إعلامنا دور مزدوج لخدمة الملالي، ولعل الصحفي العراقي نجاح علي مثال بارز على ذلك.

ويقوم الخطاب الإعلامي الإيراني على محاور ثلاثة، هي:

1. إلهاب حماس ومشاعر الجمهور تجاه قضايا إسلامية صحيحة وعادلة كالقضية الفلسطينية، وإدانة العدوان الإسرائيلي ونقد السياسات الأميركية عبر خطاب إعلامي محترف على مستوى الكلمة والصورة، وبذلك يتم توظيف الإعلام لصالح ترويج إيران بمظهر المدافع عن قضايا الإسلام والمقاومة للمعتدين، وبناء صورة ذهنية مشرقة أن إيران الملالي هي بوصلة الإسلام وملجأ المظلومين ونصيرة الشعوب المضطهدة! بينما السياسات الفعلية لإيران تجاه الإسلام وفلسطين واليهود والأميركان مناقضة لذلك تماما، كما أن موقفها من الشعوب والجماهير في داخل إيران وخارجها يقوم على القمع والديكتاتورية!

2. استدرار تعاطف المسلمين مع سياسات ومواقف نظام الملالي على اعتبار أنه مستهدف من اليهود والغرب لمناصرته للحق، ولأنه يقود محور المقاومة!، وأن الأعداء يحاربونه حتى لا يمتلك قوة نووية ينصر بها المستضعفين! في تعامٍ وتغافل كامل عن جرائمهم المتكررة بحق المسلمين والضعفاء والمظلومين، كاحتلال جزر الإمارات، والتحالف مع أميركا لغزو العراق وأفغانستان، ودعم الميليشيات الشيعية في العراق واليمن وسورية، ودعم الأسد في قتل وذبح العراقيين والسوريين واليمنيين، وغير ذلك كثير.

3. تأليب الناس على خصوم نظام الملالي من الدول والدعوات والشخصيات بالكذب والافتراء والتزوير والتضخيم، بما أتقنوه من التقية والكذب والخداع عبر تاريخهم الطويل، مع التعتيم والتجاهل والتحريف تجاه سياسات إيران الحقيقية أو خطايا حلفائها وشركائها.

والغاية من هذا الهجوم إضعاف الخصم وإشغاله بنفسه وتشكيك الناس به وفض أنصاره عنه، مما يؤدي إلى صناعة رأي عام وتكوين صورة سلبية في المخيال الجمعي لدى الناس عن خصوم ومنافسي إيران، وهذا يعد ربحا صافيا للملالي في معركة الإعلام والسياسة.

إن التصدي لهذه السياسة الإعلامية الناعمة والعدوانية لا يكون أبداً عبر سياسة إعلامية تقوم على التجاهل والإهمال والتي سادت لمدة طويلة، أو مواجهة هذا الإعلام العالمي بإعلام محلي، ولا تصلح في مقاومتها الفزعات الإعلامية الطارئة، ولا الأداء الإعلامي غير المحترف.

والكارثة الكبرى حين يواجه خطاب الملالي الدعائي التضليلي بتبني القضايا العادلة والمحقة كقضايا الإسلام وفلسطين ومآسي المسلمين، بتبني خطاب إعلامي فاتر في هذه القضايا إن لم يكن سلبيا وضارا، وهو لا يَعرض حقيقة المواقف والسياسات الإيجابية من قضايا الإسلام وقضايا المسلمين، ولا يفضح مدى تلاعب نظام الملالي بهذه القضايا المحقة ويكشف تزويره وجرائمه، مما يؤكد في النهاية دعايات التشويه الإعلامية الإيرانية الكاذبة ضدنا، ويصبح إعلامنا يخدم عدونا!.