إن مفهوم القوة الناعمة في علم السياسة يعني تحقيق الأهداف الإستراتيجية عبر التأثير على الآخرين، وتوجيه خياراتهم بما يوافق رغباتك من خلال اتخاذك قدوة ونموذجا، ومِن توابع هذا المفهوم تسخير بعض الأدوات الناعمة وغير العسكرية لفرض رؤيتك ومطالبك على الآخرين، أو زيادة رصيدك المعنوي من القوة عبر كسب تأييد قطاعات شعبية في البلدان المنافسة، ومِن هذا الباب يأتي توظيف إيران بذكاء لورقة الحركات والشخصيات الإسلامية -والسنية تحديداً- لإعطاء إيران ونظام الملالي الطائفي والإرهابي قدراً من المشروعية والشرعية، ومن جهة أخرى يعقّد الحسابات الإستراتيجية في دخول صراع مع إيران بسبب قدرتها على شحن وتعبئة جمهور كبير مناصرٍ لها خارج أراضيها.

ورؤية الملالي كانت واضحة من البداية في السعي لتسخير هذه العلاقة لتحقيق مكاسب سياسية لهم، كما يقول رفسنجاني في كتابه «حياتي»، عن زيارته لمركز إسلامي سني في هولندا قبل سقوط الشاه: «سافرت إلى هولندا، لإنشاء مقر للشباب المسلمين، كان هناك مركز من مراكز المسلمين السنة، أردت بطريقة من الطرق وبتدبير معين تهيئة المجال للاستفادة من هذا المركز لنشاطاتنا السياسية، لكن لم أوفّق»! وهذه الرؤية الاستغلالية والتوظيفية للحركات والشخصيات السنية هي المقصد الوحيد من علاقة الملالي بهم، ومتى انتفت الحاجة لهم نبذوهم وخذلوهم، كما رأينا عندما ساند الخميني حافظ الأسد ضد الإخوان في ثمانينيات القرن الماضي، واستمر خليفته خامنئي على نفس الموقف اليوم حين وقف ضد الثورة السورية ودمّر سورية، ولم يقبل بثورة الشعب السوري، ولم يقبل بتمنع حركة حماس عن تأييد بشار الأسد، حتى عادت حماس بنوع من المراوغة لعدم معاداة الأسد، مع تغيير طاقم قيادة حماس بطاقم أكثر قرباً من طهران برعاية محمود الزهار، صاحب التصريح الشهير في 2012: «سنضرب إسرائيل بقوة إذا نشبت الحرب مع إيران»!

ومن آخر الأمثلة على نجاح هذا التوظيف الإيراني لورقة الحركات والشخصيات الإسلامية السنيّة في وجه خصومها في المنطقة وفي العالم، ما نتج عن زيارة وزير خارجية إيران محمد ظريف للعراق قبل أسابيع، في سياق الرد على مؤتمر وارسو لتشديد الحصار على إيران، هذه الزيارة -التي استمرت لخمسة أيام متواصلة- التقى خلالها بقطاعات رسمية وشعبية عراقية كثيرة في سلوك سياسي غير معتاد.

ومن أبرز النتائج التي تمخضت عنها زيارة ظريف للعراق وتوظيف الحركات والشخصيات الإسلامية السنية في صراعها مع الدول العربية والعالمية، تصريح رئيس ديوان الوقف السني الدكتور عبد اللطيف الهميم، الذي جعل «الدفاع عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أمام الحظر الأميركي الظالم واجباً شرعياً»، بينما الهميم نفسه سكت عن حظر إيران للمياه قبل أسابيع عن مواطنيه العراقيين في البصرة، مما يكشف عن مدى قدرة إيران على التلاعب والتوظيف لهذه الشخصيات في بناء صورة ذهنية بأن الصراع مع إيران هو صراع مع جهات كثيرة ولا تنحصر في إيران!

وفي نفس السياق جاءت التصريحات لمهدي الصميدعي -وهو كاذب في ادعائه صفة مفتي العراق- بأن العالم تشرف باسم إيران «الجمهورية الإسلامية»، معربا عن أمله بأن يسمى العراق «الجمهورية الإسلامية العراقية»، وهذا كله لإكساب إيران سمعة إعلامية وقوة معنوية عند جمهورها في الداخل والخارج.

وفي نفس السياق أيضًا تأتي تصريحات أمين عام حركة الجهاد الفلسطينية زياد نخالة، بالثناء والتمجيد لإيران في لقائه بظريف في بيروت قبل أيام، وفي كلمته باحتفال السفارة الإيرانية ببيروت بالذكرى الـ40 لثورة إيران، لتلميع صورة إيران وكسر الطوق عنها، والقول بأنها محل ترحيب من جهات سنية!

هذا التوظيف الإيراني لأداة الحركات والشخصيات الإسلامية السنية في تحسين صورتها وإعطائها بعدا أمميا ليس حديثاً ولا طارئاً، فمنذ عدة سنوات، وبعد أن فضحت أكذوبة مؤتمرات التقريب بين الشيعة والسنة التي رعتها إيران لتتسلّل بين المسلمين السنة، لجأت إيران لاستبدال عنوان التقريب بين السنة والشيعة والتقريب بين المذاهب بعنوان براق هو مؤتمر الصحوة الإسلامية، حيث عقدت مؤتمر الصحوة الإسلامية الأول في طهران سنة 2011، وحَشدت له الكثير من الشخصيات والحركات الإسلامية من بلاد شتى، لتحاول الزعم بأنها قائدة العالم الإسلامي وزعيمة المسلمين والقاطرة التي تجر عربات المسلمين في العالم!

كما استهدف ملالي طهران عددا من الطرق الصوفية لاختراق الصف السني في عدد من الدول، وفعلاً نجحوا في استقطاب جماهير واسعة من الصوفية لتأييد إيران سياسياً، وبعضهم تشيّع بالكامل وأصبح من أتباع الولي الفقيه دينياً وسياسياً.

وقصة علاقة ملالي طهران بالحركات الإسلامية عامة، وجماعة الإخوان المسلمين خاصة، علاقة قديمة تعود لمرحلة ما قبل سقوط الشاه، فكما يروي يوسف ندا في كتابه «من داخل الإخوان المسلمين» فقد كانت للإخوان في أميركا علاقة بإبراهيم يزدي وصادق قطب زاده، وهما من أنصار الخميني، وبسبب ذلك قام يوسف ندا بتنسيق لقاء لوفدٍ من الإخوان مع الخميني في فرنسا قبل عودته إلى طهران سنة 1979، وبعد عودته نسّق ندا زيارةً لعدد من قادة الإخوان والحركات الإسلامية من عدد من الدول الإسلامية إلى إيران لتهنئة الخميني!

ولم يقتصر الأمر على مستوى القيادات، بل قامت منابر الإعلام التابعة للإخوان بإعلان الفرح بثورة الخميني، فصدرت مجلة الدعوة المصرية، الناطقة باسم الإخوان، في 3 /‏1979، أي بعد أيام من عودة الخميني إلى طهران، وغلافها تتصدره صورة للخميني مع نشرها بيانا باسم الجماعة عن زيارتهم للخميني ومباركتهم له!

وفي مذكرات الدكتور عدنان سعد الدين -الجزء الثاني- قصة تشكيل لجنة من علماء الجماعة بعد مدة قصيرة من استلام الخميني للحكم لدراسة الموقف من فكر الخميني ونظامه، لكن بعض القيادات الإخوانية اعترض على نتيجة التقرير، الذي كان سلبياً تجاه الخميني وفكره، وتم حجب التقرير عن أفراد الجماعة، لتستمر العلاقة النفعية بين القيادتين! وقد حدث للدكتور عمر الأشقر شيء قريب من ذلك، فقد ذكر في كتابه «حياتي» أنه مُنع في مؤتمر إسلامي بلندن نظّمه شباب الإخوان بداية حكم الخميني من نقد نظام الخميني، وتكرر بعض ذلك في مؤتمر لاحق له مباشرة في أميركا!

وهذا الموقف الإخواني المائل لإيران لا يزال هو الغالب على عموم موقف الإخوان من إيران، وهو ما كشف عنه استطلاع للرأي نفذه مركز قناة الجزيرة للدراسات في عام 2015، برغم أنهم انتقدوا مواقف إيران الأخيرة ضد ثورة الشعب السوري، إلا أنهم «ورغم هذا الافتراق الواضح الذي تعكسه النتائج فيما يتعلق بتوجهات النخب داخل الإخوان المسلمين نحو إيران، إلا أنها تُظهر أيضًا الرغبة في تجسير الهوة، وتعكس وعيًا بخطورة الخلاف على الحالة الطائفية والصراع بين السُّنَّة والشيعة، فضلًا عن الصراع مع الكيان الصهيوني»، بحسب تحليل د فاطمة الصمادي لنتائج الاستطلاع، وهذا يؤكد مدى نجاح إيران في توظيف هذه الشخصيات والحركات الإسلامية لتقدم لها طوق النجاة في الأزمات دوماً!.

صدرت عدة كتب حول علاقة الإخوان وإيران لكن غالبها سطحي ومنحاز وغير موضوعي، وهي تستغل أزمة الإخوان في عدد من الدول للافتراء عليهم وإدانتهم بشكل غير عادل، برغم أن خطأ الإخوان في هذه القضية أوضح من الشمس، وهو أقدم بكثير من ثورة الخميني، بل يعود لزمن المؤسس حسن البنا، حيث تبادل وأستاذه محبّ الدين الخطيب المقالات والردود حول التقريب بين السنة والشيعة على صفحات مجلتي الفتح والإخوان المسلمين، والمجال لا يتسع لتفصيل ذلك.

ولعل الخلاصة التي وصل لها فريدريك هاليدي في كتابه «إيران والإخوان: علاقات ملتبسة»-ولعله أفضل ما كتب في الموضوع- تكشف الفوائد التي حصلت عليها إيران عبر هذه الأداة الناعمة: دعم جماعة الإخوان المسلمين السياسي والإيديولوجي للدولة الشيعية، أثبت أنه يمثل درعاً مفيداً ومميزاً لإيران... فإنها خدمت إيران بشكل هائل لمواجهة حملتين عنيفتين: 1- الحملة التي تقودها السلفية الوهابية ضد الشيعة والتشيع. 2- وحملة أنصار «القومية العربية» لمقاومة النفوذ السياسي المتنامي لإيران «الفارسية».