لا تقتصر أدوات إيران الناعمة على القوى الذاتية أو المنتمية للتيار الديني، بل تشمل توظيفهم الناعم حتى للقوى العلمانية، كاليساريين والناصريين والقوميين، برغم أن الملالي يشكلون نظاما ثيوقراطيا، وهؤلاء ينادون بفصل الدين عن الحياة وليس عن السياسة فقط، وهنا تحتار حول الطرف الانتهازي، هل هم الملالي أصحاب العمائم أم المثقفون أصحاب الياقات المنشاة؟!

ووسع الملالي دائرة توظيفهم الناعم لتشمل الفنانين والمغنّين الذين ملأوا الفضاء تلوثاً بفحشهم وانخلاعهم من أحكام الدين، ورغم أن انفلات الفن زمن الشاه كان أحد مآخذ الخميني على حكم الشاه، لكن إذا كانت مصلحة الملالي مع الملاهي فمرحباً بها، وبالمقابل أصحاب الملاهي يرحبون بكل ما يأتيهم ولو كان بتومان الملالي!

يعد تحالف نظام الملالي المبكر مع نظام حزب البعث السوري في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أول حلقة في التحالف الغريب بين التدين المتطرف والعلمانية المتطرفة، وقد بقي هذا التحالف قائماً لليوم، وإن اتخذ شكل تبعية كاملة من حزب البعث السوري للملالي.

قد يجنح البعض لأن يجعل العلاقة طائفية بحتة بين النظامين شيعة/‏نصيرية، لكن ما يعكر على هذا الحصر أن أتباع حزب البعث السوري في الأردن ولبنان وفلسطين هم من المسلمين السنة ومن المسيحيين، أيضاً يدافعون بحرارة عن جرائم نظام الملالي اليوم في العراق وسورية واليمن وغيرها، في الإعلام والشارع والبرلمانات المحلية، فهل هؤلاء يفعلون ذلك بدافع شيعي أو نصيري أم بدافع علماني أو بعثي بحت؟

فبتأثير من نظام البعث السوري تحوّل أحمد جبريل والجبهة الشعبية ليصبحا من الأذرع الناعمة التي وظفتها إيران منذ عقود لهذا الغرض، حتى أصبح أحمد جبريل صاحب المنهجية الماركسية مشاركا رئيسا في مؤتمرات ملالي طهران للصحوة الإسلامية مؤخراً!

وعقب جريمة إيران بدعم الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان في سنة 2003 ركّز ملالي طهران مرة أخرى على تفعيل دور اليسار العربي والناصريين في تضليل الجماهير العربية، وكان موقع «شبكة البصرة» قد نشر في نهاية عام 2005 وثيقة إيرانية وجدتها المقاومة العراقية مع ضابط إيراني عن خطة تمويل إيراني لهيئات ومؤسسات وأفراد من التيار اليساري العربي للترويج لإيران.

وبعد سنوات، وفي الثورة السورية أعلن العميد حسام العواك، من استخبارات الجيش السوري الحر، عن الحصول على تقرير إيراني يكشف عن دعم بـ 100 مليون دولار، موجّه لبعض الأحزاب والتيارات الناصرية والاشتراكية بالدول العربية.

وبمتابعة مواقف التيارات اليسارية والناصرية والقومية في المنطقة العربية سنجد أنها تناصر دوماً نظام الملالي وأذنابه كحزب الله اللبناني والحشد الشيعي في العراق والحوثيين في اليمن، مما يعزز مصداقية التصريحات السابقة للمقاومة العراقية والسورية!

فحين ترشح حمدين صباحي، رئيس حزب الكرامة، الناصري الهوى، لمنصب رئاسة الجمهورية في مصر سنة 2012، قام بزيارة مفاجئة لعاصمة الملالي طهران! وراجت يومها أخبار عن تمويل إيراني لحملته الانتخابية استلمها من بيروت.

ومنذ أن انطلقت الثورة السورية اصطف اليساريون والناصريون العرب خلف بشار الأسد وأيّدوا ودعموا كل جرائم حزب الله وملالي طهران لبشار، ولذلك قاموا بزيارات متعددة لدمشق لدعم بشار، منها زيارات ليساريين أردنيين في عام 2013، وزيارة ليساريين مصريين في 2015، والتقوا أيضاً حسن نصر الله، زعيم حزب اللبناني.

وبعد أن تورط حزب الله اللبناني مراراً في عمليات إرهابية ضد دول مجلس التعاون الخليجي قامت دول المجلس بإعلان حزب الله منظمة إرهابية في عام 2016، انتفض كثير من الهيئات والشخصيات اليسارية والناصرية للدفاع عن جرائم حزب الله وإرهابه، ومن ذلك الوقفة الاحتجاجية في مصر ضد القرار، والتي دعت إليها مجموعة هيئات شملت حركة «كفاية» وحزب حمدين صباحي «حزب الكرامة» والحزب العربي الناصري وحزب التحالف العربي الاشتراكي ولجنة الشؤون العربية بنقابة المحامين التي يقودها الناصريون.

والطريف في الأمر أن من ضمن مؤيدي إيران وحزب الله وبشار الأسد محمد عطية، المنسق العام لحملة «لا للأحزاب الدينية»، ويبدو أن عطية مصاب بالحول أو العمى، لأنه لا يرى عمائم الملالي في طهران وبيروت وهي تحتكر الحكم، وليست فقط تقود أحزابا!

ومن أبرز الشخصيات الناصرية والقومية الإعلامية المؤيدة والداعمة لمشروع الملالي، الإعلامي الناصري المصري عمرو ناصف، الذي يدير مكتب قناة المنار في القاهرة، وعبد الباري عطوان، الذي يسخّر منبره ومشاركاته الإعلامية لغاية واحدة هي تعويم نظام الملالي وإعادة ترميم سمعته في الشارع العربي.

ومن خلال هؤلاء اليساريين والناصريين العرب تمكن ملالي طهران من ملء الفضاء الإعلامي العربي والعالمي بجيش من المدافعين عن «مقاومة وممانعة» الملالي، والتي هي في حقيقتها حروب أهلية مشتعلة في بلاد العرب تجري منها أنهار الدماء دون توقف منذ سنوات.

ومن خلال هؤلاء العلمانيين واليساريين العرب -الذين سمّنهم الملالي- تمكنت إيران من بناء جسر تعاون مع اليسار الغربي يدعم أطروحة الملالي ويدافع عنهم، كما رأينا في تأييد اليسار الغربي للاتفاقية النووية الإيرانية ورفض قرار ترمب بإلغائها، وهنا تكمن فائدة بناء القوة الناعمة، حيث تجد حلفاء مخلصين لك لا يشك كثيرٌ من الناس في مصداقيتهم ولا يفهمون طبيعة العلاقات والتشابكات الخفية تحت الطاولة.

ولم يقتصر توظيف الملالي للساسة اليساريين والناصريين، بل نجحوا أيضاً في جذب بعض المغنين والفنانين ليكونوا بوقاً لهم بين جماهير مشاهديهم، يحسّنون صورة إجرام نظام الملالي وأذنابه، فقد استغل حزب الله بعض الفنانين ليسوّق بطولاته ومقاومته المزعومة كجوليا بطرس في عام 2006، وأغنية «نصر العرب» التي أدّاها 42 فنانا!

وفي العراق تم استضافة عدد من الفنانين المصريين لزيارة الحشد الشعبي، وبعضهم ارتدى الزي العسكري للحشد! ومن ثم قام مونديال القاهرة للفن والإعلام بمنح فيلم وثائقي بعنوان «الحشد الشعبي» من إنتاج الحشد الشعبي العراقي المرتبة الأولى في المهرجان!

ويهدف نظام الملالي من خلال هؤلاء الفنانين الوصول إلى شريحة واسعة من الناس قد تكون مغيبة عن بشاعة جرائم وطائفية نظام ملالي طهران، لتحافظ على رصيدها الشعبي في الشارع العربي، مما يساعدها في مواصلة تنفيذ مشروعها العدواني التمددي عبر القوة الصلبة، كما في العراق وسورية ولبنان واليمن، أو عبر القوة الناعمة كما هو الحال في كثير من البلاد العربية والإسلامية.

وتبقى نقطة أخيرة حائرة، وهي في الوقت الذي يحاول البعض تصوير الصراع مع ملالي طهران على أنه صراع قومي عربي فارسي، نجد أن منظري القومية العربية من الناصريين وغيرهم هم حلفاء الملالي! وهم الذين يتغاضون عن كل الحقوق القومية العربية سواء في الأحواز أو جزر الإمارات أو العراق وسورية واليمن والتي ينتهكها الملالي! مما يجعل من فرضية الصراع القومي بين العرب والفرس نظرية معلقة في الفراغ!