ليس ثمة أجمل من الأشياء المستمرة في النمو وفي الحركة وفي إنتاج الإبداع والألق. لا أكره في حياتي سوى رؤية شجرة قد توقف نموها، أو شاعر مبدع توقف عند أول ديوان، أو إنسان تجمدت أفكاره وتطلعاته عند لحظة جليدية ممعنة في السكون. ولذلك فعلاقتي مع الشمس والقمر ومع الأنهار والبحار أكثر ودا وإجلالا من علاقتي مع المطر يجيء يوما ويختفي أياما، ومع الغدران ومصيرها الجفاف، ونباتات الصحراء الشجية التي إن ظهرت موسما فلن تظهر في الآخر. أحب الزمن الذي ينفتح على أزمان وعصور وحقب شتى، لذلك تنتعش روحي في الأماكن التاريخية والمتاحف الكبرى والفضاءات العريقة!

دعوني أصحبكم في رحلة مع أشيائي (المستمرة)، فهذه الرحلة تفصح في معظم تجلياتها عن قيم إيجابية عامة من الالتزام والجد والشغف والوفاء والعمل المؤرق الجميل!



(1)

لا أكاد أتخيل مشاعر الإجلال والإعجاب التي تخامرني عندما تقع يدي على إصدار جديد من إصدارات سلسلة (عالم المعرفة) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة في الشقيقة الكويت منذ عام 1978 وحتى الآن.. 41 عاما وهي تنتج مع مطلع كل شهر ميلادي، كتابا (من الوزن المعرفي الثقيل)، لتصل سلسلتها الذهبية الفاخرة الشهر الماضي عند الحلقة الـ470. من (أعدادها الأثيرة) ما زلت أذكر أن الكتاب الذي دخلت لأول مرة ومعي قراء أفذاذ كثيرون إلى مفاهيم ومعطيات وحقائق عالم المعلوماتية والزمن الرقمي الجديد، كان أحد الكتب العظيمة من تلك السلسلة وهو كتاب (الثقافة العربية وزمن المعلومات) للدكتور نبيل علي عام 2001، (وما زلت أعد هذا الكتاب من أهم ما تحتوي عليه مكتبتي منذ بداية تكوينها قبل 3 عقود من الزمن وحتى الآن).. ومن الكويت أيضا ما زالت تصدر مجلة (العربي) عن عمر يناهز الستين عاما، إذ كانت ولادتها المبكرة في عام 1958، وهي تكبر بعام واحد فقط شقيقة مصرية لها (ارتبطت بذاكرة كل طفل عربي) وهي مجلة (ميكي) ذات الجينات الأميركية الخاصة بعالم (ديزني)، والتي كسبت (دار الهلال) المصرية حق نشرها منذ عام 1959.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن مجلة (القافلة)، التي نشأت على ضفاف آبار الزيت في بلادنا عام 1953 من موقع شركة (أرامكو). وبالتأكيد فلا تزال كل تلك المجلات بجهود منقطعة النظير ووفاء خالص لتاريخ طويل، مستمرة في عطاءاتها حتى الآن، وفي الموعد الشهري نفسه من كل عام.



 (2)

 ومن أرض الأشجار العريقة التي لا تكل من النمو والانتشار والخصب والحياة، في مجال التأليف والكتابة الإبداعية ثمة أنموذجان يتعالقان بصدق مع أغصان تلك الأشجار الوارفة.

الأول روائي من صحراء الطوارق الليبية، كان شغفه بالحكايات وهاجسه في إنتاج الإبداع مستمرا لا يقف عند حد الاكتفاء بأهداف إثبات الذات وتأكيد الحضور (وكان يمكن أن يفعل ذلك بعد نشر نصف أعماله من غير أن يلومه أحد). كتب إبراهيم الكوني ابتداء من عام 1990 (60) عملا روائيا (مع بضعة أعمال قصصية وسير ومذكرات)، بمعدل كتابين كل عام (محافظا فيها جميعا على القيم المعرفية والفنية واستمراريتها وتحولاتها).. وفي مجال الكتب المعرفية يبرز اسم الدكتور عبدالله الغذامي في مشهدنا المحلي الثقافي شاهدا جليا على ذلك الانهماك المورق في ديمومة البحث والمعرفة، من خلال ثلاثين مؤلفا، بدءا من عام 1985 الذي شهد حدثا ثقافيا (مهما) في التاريخ الثقافي لبلادنا متمثلا في إصدار كتاب الخطيئة والتكفير (كل من تلك الكتب الثلاثين يجسد مرحلة ثقافية مر بها د.الغذامي واشتغل بها وعليها، من الكتب ذات الوزن المعرفي الثقيل برصانتها العلمية ومضامينها النقدية الرفيعة)، أي أن شجرة الغذامي المعرفية مستمرة في النمو والصعود للأعالي الباسقة، وهو يسقي جذورها العريقة بسقاية واحدة كل عام من ماء بالغ النقاء والقدرة على التخصيب والإنماء (كتاب واحد كل عام، ولا يزال في العقل متسع للإنتاج والتأليف)!

أحب أستاذنا الغذامي كما أحب الكوني وصنع الله إبراهيم وأمين معلوف، ومن قبلهم الساقية القصصية الثقافية التي ظلت تدور وتروي وتعمل لـ68 عاما على التوالي..الرائد المصري الهائل نجيب محفوظ (والذي كتب خلالها 100 عمل قصصي: ما بين الرواية والقصة القصيرة والسينمائية، بمعدل مؤلف ونصف كل عام، في مسيرة معرفية أدبية لا تتكرر).



 (3)

أما الأصوات الفنية التي لا نزال نسمع نداءاتها الشجية لسنوات مديدة، فلا شك أن جارة القمر (فيروز)، ظللنا نسمع بحب وحنين صوتها الملائكي ما يقارب الـ70 عاما حتى الآن، فإذا استثنينا بداياتها الطفولية الفنية نجد أنها غنت لأول مرة بألحان الرحابنة أغانيها الشهيرة، ابتداء من عام 1951.. وفي فضاءاتنا المحلية كان صوت فنان العرب محمد عبده شاهدا لأفراحنا وعشقنا وحنينا 60 عاما (إلا واحدا بالتحديد)، فقد بدأ نشاطه الفني في الإذاعة السعودية عام 1960 ومنها انطلق يغني في كل مسارح الدنيا أغانيه الخالدة من كلمات (أهم) الشعراء محليا وعربيا، بدءا من طاهر زمخشري ومرورا بالبدر وخفاجي وإلى شاعر الأرض الخضراء أبي القاسم الشابي في تونس.

(أمثلة).

والحقيقة أنه لم يكن لتلك الأصوات العذبة أن تستمر كل ذلك الزمن، إلا بعد أن توافر لأصحابها الصدق الفني والالتزام الجاد والتأكيد على أن مسألة الممارسة الفنية تلك تمثل لهم أشياء لازمة كالهواء والماء، كالحياة والنبض والحب..!



 (4)

كنت سأحكي لكم عن بقية من زمن مفعم بالتحولات في بقية من أشياء ذات حنين وألق وإبداع لا ينتهي، لولا انتهاء زمن هذا النثار بالتأكيد، ربما في مقاربة (مستمرة) أخرى.