تناولت المقالة السابقة جانباً من رؤى الاقتصاديين المتباينة حول احتمال تفوق الصين على أميركا وتحولها إلى الاقتصاد الأقوى في العالم. وبغض النظر عن إمكانية ذلك أو استحالته، فإن الاقتصاديين ليسوا وحدهم من يتأمل هذا المشهد ويرمون بتوقعاتهم في دائرة الاحتمالات الصعبة. فإن ترجل الولايات المتحدة الأميركية - الدولة التي تحتل قمة الهرم العالمي اقتصادياً قرابة قرن من الزمان - عن تلك القمة ليس حدثاً عادياً. ولا يمكن أن يتم هذا التحول الهائل في الاقتصاد العالمي دون آثار مباشرة على كل دولة من دول العالم تقريباً. وهذه الآثار - بطبيعة الحال - لن تكون اقتصادية فحسب، بل ستلحق بها حتماً قائمة من التبعات السياسية والثقافية، سيلمسها في سعيه اليومي مزارع القهوة في البيرو، وبائع الحطب في النيجر، وسائق التاكسي في تركيا، وتاجر العطارة في جدة، والمليارات السبعة أو الثمانية الذين سيشغلون الكوكب حينها، ويسعى كل منهم أن يقضم قضمة أوسع من رغيف الاقتصاد العالمي المشترك.

وفي عالم حديث، لا شك أن القوة الاقتصادية الأكبر ستكون الأقوى سياسياً بطبيعة الحال. وستصبح الصين شرطي العالم الجديد الذي يتدخل بشكل حاسم في مسارات دوله ومصائر أممه. فكيف نتخيل سلوك هذا الشرطي لو كان صينياً بعد أن شهدنا لعقود تصرفات الشرطي الأميركي؟ وماذا في أيدينا الآن من تاريخ الصين السياسي والعسكري لنستعين به على التنبؤ بسلوكها المستقبلي عندما تنفرد بالأمر؟ وكيف سيكون انعكاسات هذا الجبروت السياسي على عالمنا العربي التي يندر أن نجد فيه دولة لا تتكئ بشكل أو بآخر على دولة عظمى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؟ وهل سيكون الشرطي الصيني هو البديل الذي نرجوه للشرطي الأميركي في نصرة القضايا العادلة والحفاظ على استقرار العالم؟ الأهم من ذلك، هل القيم الصينية التي ستسود العالم حينها تبعاً لهيمنتها الثقافية والاقتصادية ستكون أقرب إلينا من القيم الأميركية؟

استحباب تفوق الصين في عالمنا العربي يكاد يكون ضرباً من النكاية في أميركا والتشفي بسقوطها المرتقب. وهذا السيناريو يفترض تصوراً كرتونياً لحالة غير ممكنة. فالتفوق الأميركي على بريطانيا في بداية القرن العشرين لم يأت بهذا الشكل السينمائي الذي يصبح معه التصفيق للجواد الأسود الفائز والتشفي من المتسلط السابق سلوكاً عالمياً ذا شواهد. وبريطانيا التي كانت تتاجر ببهارات الهند وجلود كندا في آن واحد، لتصب هذه الثروات جميعاً في أيقونة الحضارة اللندنية، سلمت مفاتيح السيادة الاقتصادية لأمم أخرى ولكنها احتفظت بموقع متقدم طيلة قرن. وما زالت واحدة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم حتى اليوم، وتتمتع بمعدلات نمو وليس انكماشاً، وما زال المواطن البريطاني من أغنى عشرة مواطنين على وجه الأرض؛ رغم مرور مائة سنة على ترجله من قمة الهرم. وفي العام الماضي، تجاوزت الصين لأول مرة دولة اليابان مستفيدة من الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي ضربت الاقتصاد الياباني مؤخراً. إلا أن اليابان لم تهو من عل، ولم تسقط بشكل مسرحي، واستمرت عجلة الإنتاج الياباني في الدوران محققة نمواً قارب الأربعة بالمائة في العام الماضي. كذلك كان الحال مع بقية الدول التي تجاوزتها الصين في قفزاتها الواسعة كألمانيا وفرنسا وإيطاليا. ناهيك عن أن جميع هذه الدول بلا استثناء ما زالت - على مستوى دخل المواطن - أفضل حالاً بكثير من المواطن الصيني. فمعدل دخل المواطن الكندي يعادل عشرة أضعاف معدل دخل المواطن الصيني، رغم أن الصين هي ثاني أكبر اقتصاد عالميّ بينما تحتل كندا المركز العاشر.

قياساً على ذلك، فإن اليوم الذي تتجاوز فيه الصين أميركا - عام 2030 كما يقدره بعض الاقتصاديين - لن يكون على شكل زلزال يعيد أميركا إلى بدايات التاريخ. قد تظل غنياً حتى لو ظهر من هو أغنى منك. فظهور التنين الصيني وصعود نجمه هو أشبه بدخول تاجر جديد إلى سوق العالم منه إلى انتصار محارب ضخم في معركة أخيرة. سيخرج الأميركيون في ذلك اليوم إلى أعمالهم كما خرج الألمان إلى أعمالهم في اليوم الذي تجاوزتهم فيه الصين. وستستغرق الصين بعض الوقت - بعد هذا التجاوز - قبل أن تبدأ في إحكام سيطرتها على القمة الجديدة، وتفعيل هيمنتها السياسية المرتقبة. وهنا تبدأ الآثار الاقتصادية في التحول إلى واقع يلمسها المليارات في العالم، بالإضافة إلى الآثار التي لمسوها من قبل كتبعات لرحلة الصين نحو القمة أصلاً. ولكن ماذا عن الآثار السياسية؟

الصين التي ما زالت حتى الآن تتخذ مواقف سلبية من الربيع العربي بمعارضتها إدانة النظام السوري ووقوفها ضد ضربات الناتو على نظام القذافي تعلن عن سلوك اقتصادي أشد نفعيّة من ذلك الأميركي الذي اعتدنا عليه. فإذا كانت أميركا قد وضعت أيديها في أيدي طغاة العالم من أجل مصالحها الاقتصادية فإن الصين إلى ذلك أسبق، ناهيك عن تاريخها الاستعماري. ولا دليل على ذلك سوى الحضور الصيني في أفريقيا وتحالف الصينيين مع زعماء أفارقة عرفوا بسرقتهم لثروات الشعوب وتعطيلهم لتنميتها العادلة. وقد عوّض الاهتمام الصيني بأفريقيا هؤلاء الزعماء الأفارقة عن التراجع الغربي من المشهد الأفريقي بسبب ضغوط شعبية متزايدة ضد مثل هذه التحالفات مع أنظمة ديكتاتورية فاسدة. فغيّرت سفن الشحن طريقها باتجاه الشرق وتضاعفت حسابات الزعماء البنكية بأموال الصين. وفي جميع الحالات، فإن النظام الصيني نفسه - الذي يعدّ من أشد الأنظمة السياسية قمعية في العالم - لا يجد غضاضة في التحالف مع أنظمة شبيهة به. وليس بوسع المواطن الصيني أن يعترض على هذا في دولة تعدم خمسة آلاف من مواطنيها كل سنة، بعضهم في جرائم بسيطة مثل التهرب الضريبي.

بالنسبة للعالم العربي الذي طالما كره من الولايات المتحدة دعمها المستمر لإسرائيل فإن الصين ليست أقل دعماً لها. فرغم تأخر الصين في الاعتراف بإسرائيل حتى الثمانينات الميلادية (نكاية في أميركا وأوروبا وليس حباً في العرب) فإن العلاقات الصينية الإسرائيلية توثقت خلال العقدين الأخيرين حتى أصبحت الصين أكبر حليف تجاري آسيوي لإسرائيل، وأغلب هذا التبادل التجاري منصب في عقود تسليح مشتركة. وتجد إسرائيل في الصين سوقاً رائجة لمنتجها التقني عالي المستوى؛ حتى كادت تعتمد على الأموال الصينية في تمويل أبحاثها والوقوف على قدميها. وبالتأكيد أن التبادل التجاري مع دولة مثل الصين خليق بأن ينعش اقتصاد دولة صغيرة كإسرائيل ويعوضها عما تخسره من المقاطعة العربية بالكامل، رغم أن المقاطعة العربية لم تعد شاملة كما كانت.

إن البديل الصيني لن يجعل عالم ما بعد الهيمنة الأميركية أفضل. ليس لأن هذه هي الصين وتلك هي أميركا، ولكن لأن القطب الأوحد في العالم هو مدعاة هيمنة وتسلط واستنفاع سياسي وإلا ما صار قطباً من الأساس. والدول التي تعتمد في مسيرتها التنموية على تحالفها مع قوى عظمى لا تقف على قاعدة متينة. بل تجعل نفسها عرضة لصراعات أكبر منها وتحركات دولية لا تملك توجيهها لمصلحتها. من السهل جداً تتبع مصائر الدول التي اتخذت هذا المسار وتباينها عن الدول التي شقت لنفسها طريقاً مستقلاً، تستفيد فيه من القوى الكبرى ولكنها تبقي قوامها الاقتصادي معتمداً على تنميتها الذاتية ولحمتها الوطنية ومشاركتها الشعبية.