بكل إمكاناتنا المدهشة الضخمة، نحن أيضاً لا نستطيع أن نتقدم بملف صغير لاستضافة بطولة العالم لألعاب القوى، ولا حتى لدورة مثل الألعاب الرياضية العربية. نحن بهذا أصحاب خصوصية لا تشبهها خصوصية واحدة لشعب على هذه الأرض، وحين شاهدت مساء ما قبل البارحة احتفائية جنوب إفريقيا بالعالم يأتي إليها كان لابد من هذا السؤال: لماذا نحن في شارع وحدنا وكل جنسيات الأرض وأعراقها وأديانها وأعلامها في شارع؟ لماذا نسير عكس التيار وفي مقابل ونقيض ومواجهة ما لا يقل عن مئتي شعب على وجه هذه الأرض ؟ ومسألة الاختلاف حد النشاز لا تكمن في مجرد العجز عن استضافة فكرة رياضية. إنه الهوس المطلق بالخصوصية. في اليمن المجاورة، ثقافة وتقاليداً وأعرافاً قبلية تقود المرأة سيارتها في الفيافي والجبال وفي شوارع المدن شأنها شأن ذلك الجوار في الإمارات والبحرين، شأنها أيضاً شأن كل شوارع الخريطة الإسلامية بنحو ستين دولة في منظمة المؤتمر الاسلامي ، ومع هذا مازلنا نلوك هذا الملف الشائك. إما أن تقفلوه بقرار يسكت كل اجتهاد بيزنطي عقيم وإما أن نعترف بأننا وحدنا في شارع مقفل لا يشابهه شارع آخر على هذا الكون. نحن وحدنا نغرد خارج سرب من مئتي دولة ... وكلهم على خطأ مطلق، بمن فيهم نصف مليار امرأة مسلمة في مدن العالم الإسلامي وخرائطه ودوله ، ونحن وحدنا في الاتجاه الصحيح. إنه الهوس المطلق بالخصوصية. نحن وحدنا نقف على فوهة الكارثة الاجتماعية بثلثي نسائنا من الجامعيات في دائرة البطالة المطلقة ثم نتوقع من نصف مليون امرأة متعلمة وجامعية أن تقبل بجدران المنزل وأن تتنازل عن ( لقمة الجوع ) رغم مئات الآلاف من الفرص المشرعة من أجل عمل شريف ، ولكن هذه الأعمال والوظائف لا تتناسب مع الخصوصية. نحن وحدنا من بين كل شعوب الأرض ، المسلمة و غيرها، من يظن أن وظيفة المرأة خارج أسوار التدريس مجرد سفور وتبرج ومجرد رغبة ( أنثوية ) جارفة للخروج إلى دوائر الحرام وللسفور، إلى انتهاك العفة ، متناسين حقائق الواقع المخيف في مئات الآلاف من النساء اللواتي، إما يعشن عالة على الاقتصاد الذكوري وإما يشحذن هذا المساء ثمن الدواء وقيمة الفستان . وحرية الكرامة الإنسانية في أن تستقل هذه المرأة بلقمة عيشها الشريفة. نحن نسكت هذا الملف ونخرس كل أوراقه بمجرد التخويف بأرقام تجارب أمريكا وكوريا والدنمارك مع عمل المرأة، ولكننا لم نكلف أنفسنا بأن نذهب إلى تجارب الإخوة والأشقاء ، ولم نسأل عن حصادهم في اليمن ومصر وباكستان وماليزيا وإندونيسيا ، ولم نطلب منهم خلاصة التجربة. لم نسألهم عن كل المحاذير التي نتوجسها وهل واجهوها، ولم نتحاور معهم عن كل العقبات التي نظن بها وكيف تجاوزوها. نحن من أفرز عبر العقود مجتمعاً فحولياً ذكورياً ، وسأعترف أنه مجتمع جائع ظامئ شره مستسعر إلى ظل المرأة وخيالها، وسأبصم بكل الأصابع، أنه من المستحيل اليوم أن تقود المرأة السيارة أو أن تذهب إلى وظيفة محترمة محتشمة، وفجأة، في ظل هذا الهيجان الذكوري المخيف. نحن بهذا الهوس من الخصوصية، لا نستطيع اليوم أن نفتح جرح المناهج والتعليم، ونحن في المعادلة المتناقضة واحدة من أكثر دول الكون صرفاً على تعليم الفرد ، ولكن نحن أيضاً أكثر الدول قناعة في الأفراد والمجتمع أن طلابنا لا يتلقون قدراً أساسياً من أبجديات التعليم العصري الحديث، ونحن أيضاً أول من يقرأ كل هذه القناعات في وجوه أبنائنا من الجيل القادم الذين لا يؤمنون في المطلق أن فصولهم الدراسية تقدم لهم شيئاً يضعهم بثقة على عتبة المستقبل. كل قرار لدينا وكل فكرة جديدة تتحول إلى قضية وطنية. تدريس اللغة الأجنبية في صفوف المرحلة الابتدائية يتحول إلى حالة رفض واستنكار شاملة خوفاً على اللغة الأم ، رغم أن تقرير مجلة ( المعرفة) الصادرة عن الجهة الرسمية للتعليم يبرهن أن ما يزيد عن 90% من طلاب الجامعات لا يستطيعون إعراب جملة من سبع كلمات متصلة. نحن بعد المئة، وبعد ثلاثين دولة إفريقية في معيار التحصيل في العلوم والرياضيات. فتح حصة الرياضة النسائية في بهو مقفل يتحول إلى فتوى وطنية عارمة. تدريس المرأة للأطفال في الصف الأول الابتدائي يتحول إلى قصة اختلاط وسفور بين معلمات أمهات وأطفال في سن السادسة والسابعة. دمج إدارات التعليم النسائية والرجالية يتحول إلى بركان خطابي، ومضى بنا الوقت مع التجربة، فلم نسأل أهل الخطب عن صدق تنبؤاتهم بعد عقد ونصف من انكشافها. نحن بهذا الهوس المخيف من الخصوصية لم نعد نتحدث عن الخصوصية في إطارها الأخلاقي الصحيح، بل نجادل في الإفرازات التي أنتجها هذا الهوس. في المرأة الشيطان لأنها تطلب وظيفة. في المفكر الشيطان لأنه حاول معالجة الجرح بالاجتهاد الخاطئ أو الصحيح. في الإداري الشيطان لأنه حاول أن يتخذ قراراً لا يناسب الخصوصية. في المواطن الشيطان لأنه مع الأغلبية الساكتة.